أفضت الحرب المؤقلمة في اليمن إلى انتقال القرار السياسي إلى عواصم الإقليم، إذ فقدت الأحزاب السياسية والجماعات قرارها لصالح هذه العواصم، والتي عملت، بمرور الوقت، على مصادرة خيارات وكلائها، الأمر الذي عقّد فرص إنهاء الحرب في اليمن. لذلك، فإن رعاية أي من هذه العواصم أي مشاورات سياسية تأتي استجابةً للتحدّيات التي تواجهها في المقام الأول، بيد أن ذلك لا يعني منح وكلائها حرية اتخاذ القرار في القضايا الجوهرية التي تتعلّق بالشأن اليمني، وإنما في أحسن الحالات، دفع هذه الحوارات بما يخدم مصالحها الحيوية، ومن ثم تمديد وصايتها على الملف اليمني بأشكالٍ أخرى، ويبدو ذلك غاية السعودية من عقد مشاورات يمنية - يمنية في هذا التوقيت، إذ تتجاوز التحدّيات الإقليمية التي تواجهها، في سياق صراعها مع إيران، مخاوفها من التوقيع على اتفاقية النووي الإيراني إلى استهداف مصالحها، خصوصا بعد تصعيد إيران من اليمن، إذ استهدفت جماعة الحوثي منشأة أرامكو النفطية في جدّة، وذلك بعد أيام من توقيع السعودية والكويت اتفاقية استثمار حقل غاز الدرة المشترك، والذي تدّعي إيران أحقيتها في استثماره، ومن ثم رأت السعودية ضرورة تخفيض مخاطر تحدّياتها في اليمن، وذلك بعقد مؤتمر مشاورات يمنية في الرياض، لتوحيد شبكة حلفائها المحليين، وفق صيغةٍ سياسيةٍ توافقية تشرعن آليات إدارة المرحلة المقبلة في اليمن، ثم مضي السعودية إلى الضغط على جماعة الحوثي لقبول الانخراط في مشاورات نهائية.
 
ومن ثم، فإن توحيد حلفائها تحت مظلة توافقية مصالح الضرورة يمثل أولوية بالنسبة لها، سواء مهّدت لخروجها تدريجيًا من اليمن، أو ظلت تديره بشكل غير مباشر، بيد أن توحيد الوكلاء، حتى وإن كان هدفاً استراتيجياً تفرضهُ المستجدات الدولية الضاغطة على السعودية، وتبعات الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن الإرث السياسي لإدارتها الملفّ اليمني، بما في ذلك نتائج المؤتمرات اليمنية التي رعتها الرياض، يشكّل عائقاً لثبيت صيغةٍ سياسيةٍ لا تصمد على الأرض، كما أن وصايتها على أتباع متنافسين لا يعني قُدرتها على احتواء خلافاتهم، وإن دفعتهم مكرهين إلى تبنّي خياراتها.
 
 
فشل السعودية في اليمن لا يكمن فقط بتغليبها مصالحها على حساب وكلائها، وإنما بشرذمة الحل السياسي وتنمية أتباع متعدّدي الولاءات، وإذ كان تدخلها العسكري في اليمن بهدف دعم سلطة وكيلها، الرئيس عبد ربه منصور هادي، فإنها هي أكثر من جماعة الحوثي قوّضت بقايا هذه السلطة، مع رعايتها مؤتمر المشاورات اليمنية في الرياض (مايو/ أيار 2015) بهدف توحيد القوى السياسية الداعمة سلطة الرئيس هادي، والشرعنة للتدخل العسكري السعودي، فإنه فشل على الأقل في هدفه الرئيس، بسبب الأجندات السعودية - الإماراتية، إلى جانب تداعيات الصراع بين دول الأزمة الخليجية في السياق اليمني، والذي دفع وكلاءها إلى المواجهة العسكرية، منها دورات الاقتتال بين القوات العسكرية التابعة للرئيس هادي والقوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، والذي أفضى إلى تمزيق معسكر الشرعية وفرْض واقع جديد، شرعنته السعودية والإمارات باتفاق الرياض، بوصفه صيغة سياسية تنظم العلاقة بين وكلائها، بيد أن هذا الاتفاق لم يؤدّ إلى تدعيم الثقة بين وكلائها، بما في ذلك تمكين حكومة المناصفة من تطبيع الأوضاع في المناطق المحرّرة.
 
ومن اتفاق الرياض إلى مؤتمر المشاورات اليمنية الحالية في الرياض أيضا، لا يبدو أن مقاربة صانع القرار السعودي المشكلة اليمنية تغيرت، فمع حرص الرياض على نجاح المؤتمر بمنحه طابعاً حيادياً، وبعقده تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب توفير دعم دولي للمشاورات، بدعوة المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، والمبعوث الأميركي، تيم ليندر كينغ، فإن هناك إشكالات عديدة، من الآليات التنظيمية للمؤتمر، وبرنامجه إلى التوليفة العجيبة في جمع حشد من القوى والهيئات والشخصيات المتنافرة، إذ استبعدت الآلية التنظيمية قوى في إطار الشرعية، لصالح قوى أخرى، إلى جانب محدّدات المؤتمر التي هي مفروضة من السعودية، وشملت الجوانب، العسكري والسياسي والأمني والاقتصادي والإنساني والاجتماعي، وهي قضايا يمنية تدخل في نطاق صلاحيات رئيس الدولة، وفي هذه الحالة الرئيس هادي الذي جرى استبعاده من المؤتمر، في تعدٍّ سافرٍ لكل البروتوكولات الدبلوماسية.
 
 ومن جهة ثانية، وإذ كانت المظلة السياسية التي عقد في ظلها المؤتمر هي التحالف الحكومي، فإنه جرت دعوة قوة سياسية خارج هذا التحالف، عدا كونها من حلفاء الإمارات، بما في ذلك عدم اعترافها بشرعية هادي، كما أن العدد الكبير للمشاركين، والذي يصل إلى خمسمائة مشارك، لم يكن الهدف منه الخروج بحلول لهذه القضايا، خصوصا لتباين الأجندات والمظلات السياسية للمشاركين، وإنما الشرعنة لوضع جديد، إذ تراهن السعودية على تسوية نقاط الخلاف التي تعيق توحيد حلفائها تحت مظلتها، أي إصلاح منظومة السلطة الشرعية وإشراك قوى سياسية جديدة من حلفائها، ومن ثم تبنّي الموقف الدولي لهذه المخرجات.
 
 
تُطرح قضية إصلاح منظومة السلطة الشرعية، بما في ذلك المؤسسة الرئاسية، أولوية سعودية - إماراتية في هذه المرحلة، وإن أتت في محدّد التحدّيات السياسية للمؤتمر، ومع أن مناقشة قضية كهذه مفترضٌ أن تأتي في سياق يمني، لا أن تحدّدها القوى المتدخلة، فإن حالة استلاب النخب اليمنية، على اختلاف أجنداتها، تشرعن، كالعادة، لتفريغ كل المؤسسات السيادية اليمنية من مضامينها.
 
 ومن جهة أخرى، ومع فساد منظومة الشرعية، يقتضي إصلاحها تقويم العلاقة بين السعودية، بوصفها دولة متدخلة، ووكيلها، ممثلا بالرئيس هادي، إذ إن اختلالات هذه العلاقة قوّضت، إلى حد كبير، قدرة السلطة الشرعية، بما في ذلك الدور الإماراتي في تنمية مليشيات مناطقية موالية له، بيد أن السعودية تجاوزت كل هذه الحقائق، وحملت الفشل لأضعف وكلائها، وفرضه أجندة للمؤتمر، وهو إصلاح منظومة الشرعية، بما فيها المؤسسة الرئاسية.
 
ومع صعوبة إزاحة الرئيس هادي، على الأقل في هذه المرحلة، والذي يقتضي إجماعا دوليا لفرض مرجعياتٍ جديدة، بما في ذلك مقترح تشكيل مجلس رئاسي، والذي كان خيارا واردا في حال مشاركة جماعة الحوثي، وهو ما كانت تراهن عليه السعودية. لذلك، ربما يكون ترتيب المؤسسة الرئاسية هو المتاح الآن، إذا توافق حلفاء السعودية والإمارات، حيث تتجه بعض الطروحات إلى خيار إزاحة نائب الرئيس، الفريق الركن علي محسن الأحمر، والذي يمثل سلطة حزب التجمع اليمني للإصلاح في المؤسسة العسكرية، وإيجاد نائب توافقي، أو إضافة آخرين، وتوسيع تمثيل القوى الأخرى في مؤسسات الدولة.
 
بيد أن موازين القوى في مؤتمر الرياض متباينة، ففي حين يعوّل الرئيس المنزوع الصلاحيات على دائرة المقرّبين منه من شخصيات وقوى سياسية جنوبية، إلى جانب حزب الإصلاح، أكبر الأحزاب المنضوية في السلطة الشرعية، فإن الإصلاح يبدو، هو الآخر، في معركة مفتوحة للحفاظ على مكاسبه السياسية، إذ إن إزاحة علي محسن قد تكون مقدمة لتقليص نفوذه في السلطة. في المقابل، وعلى الرغم من انضوائها في تحالف الشرعية، وتمثيلها في وزارات الدولة، فإن تموضعات الحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الناصري في المؤتمر قد تحكمها صراعات قوى الشرعية، وضغط سيطرة حزب الإصلاح على قرارها، ومن ثم قد تصب في صالح خصوم هادي.
 
في سياق المكاسب لخصوم الرئيس هادي من مؤتمر الرياض، تمثل مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، تمكينا سياسيا آخر، بعد فرضه، بموجب اتفاق الرياض، شريكا للسلطة الشرعية في إدارة جنوب اليمن. ومع أن تجربته في حكومة المناصفة تجعله شريكاً في الفساد وتردّي الأوضاع الاقتصادية، تماما، كالسلطة الشرعية، مقابل المكاسب والامتيازات التي حقّقتها قيادات المجلس على حساب القضية الجنوبية، فإنه كما يبدو نجح في التنصل من مسؤوليته، كما أراد المنظّمون للمؤتمر، كما أن مكسبه في حال تحققه، يتمثل في إزاحة خصمه علي محسن، وكذلك تمثيل أكبر في المؤسسة الرئاسية ومؤسسات الدولة.
 
أي استكمال الشق السياسي لاتفاق الرياض، وتعطيل تنفيذ الشق العسكري، ومن ثم بقاء أذرعه العسكرية كقوة تفرض شرطها على خصومها، إلا أن الخسائر من تموضع الانتقالي الجديد، هي انكشاف موقفه السياسي أمام أنصاره في الشارع الجنوبي كحامل قسري لمطالب الانفصال، حتى في حالة انسحابه من المؤتمر، فإن هذا لا يحسّن من موقفه، ومن ثم قد يُغضب رعاته الإقليميين، إلى جانب حضور قوى جنوبية منافسة، ما يعني شرذمةً أكبر للمنتفعين من القضية الجنوبية، إضافة إلى تعضيد سلطة منافس يمتلك قوة عسكرية، ومدعوم مثل المجلس الانتقالي من الإمارات، ربما يمثل مؤتمر الرياض خطوة في طريق تمكينه، لا في مناطق الشمال فقط، بل أيضا في مناطق الجنوب التي يرى فيها "الانتقالي" محمية تخصّه.
 
وفي هذا السياق، يحضر "المؤتمر الشعبي العام" قوة سياسية جديدة، فعلى الرغم من الشرذمة التي تعرّض لها، بعد مقتل زعيمه، الرئيس السابق علي عبدالله صالح، حيث أصبح مخزونا سياسيا، تتجاذبه جميع القوى المتصارعة، من الجماعة والرئيس هادي، إلى ورثة صالح، وزعامات مؤتمرية، مثّل لها انفراط الحزب فرصة لتعضيد سلطتها، فإن مؤتمر الرياض تحوّل سياسي لحزب المؤتمر، وتحديداً جناح صالح، إذ إن مشاركة العميد طارق محمد عبدالله صالح، المدعوم من الإمارات، وقيادات مؤتمرية محسوبة على تياره السياسي، تعني الاعتراف بمكونه "المكتب السياسي للمقاومة الوطنية" قوة سياسية وعسكرية فاعلة في المرحلة المقبلة، ومن ثم كسر حالة العزلة التي ظل يعانيها جناح صالح، جرّاء العقوبات الأممية التي طاولت نجله، العميد أحمد علي عبد الله صالح، وربما تمهيداً لتغيير المرجعيات الدولية الخاصة باليمن.
 
ومع أن جناح صالح لا يعترف بشرعية هادي، وهو تناقض إضافي لمظلة مؤتمر الرياض، فإن نتائجه، سواء أعادت صياغة منظومة الشرعية، بما في ذلك حصوله على تمثيل في مناصب الدولة أم لا، فإنه يصبّ في صالحه، لمنحه مشروعية سياسية، خصوصا وأن السعودية تراهن على مؤتمر صالح، لتحقيق نوعٍ من التوازن في جبهة وكلائها المنقسمين.
 
يجري التشاور في مؤتمر الرياض بين الخصوم على إعادة اقتسام بقايا سلطة مهترئة، لم تعد تمثّل اليمنيين، تماما كغيرها من سلطات الحرب، ومع أن من المبكّر التكهن بمخرجات مؤتمر الرياض التي قد تنتجها اصطفافات مصالح الضرورة، بين الإخوة الأعداء، فإن ما تريده الرياض وأخواتها أولاً هو ما سيحدّد خيارات المرحلة المقبلة، فالوكلاء لا يقرّرون.
 
 
*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر