أعتقد أنه آن الأوان للقوى السياسية اليمنية، بما فيها المنظومة المكونة للحركة الوطنية في مساراتها التاريخية، أن تعترف بأنها هي من تسبب في إفشال مشاريعها وطحن المشروع الوطني برحى خلافاتها وصراعاتها وتآمرها على نفسها وعلى بعضها البعض.
 
وكما يقال بأن "الاعتراف بالجهل هو بداية المعرفة"، فإن الاعتراف بهذه الحقيقة هي بداية إصلاح الحال في زمن لن يستقيم فيه حال اليمن إلا بمثل هذه المواجهة الحاسمة مع النفس.
 
عاشت القوى السياسية حالة من التناقض المريع: بين التضحيات العظيمة التي قدمتها من أجل مشروعها الوطني من ناحية، وما يقابله من تفكيك لمنظومتها الداخلية عبر صراعات كانت تخمد فيه حوافز وشروط التمسك بالمسار الذي يوصلها إلى نهاية المشوار من ناحية أخرى.
 
كسرت مشاريعها عند أول منعطف، فبدلاً من النظر إلى المشروع الذي تحمله على أنه رافعة من روافع ذلك المشروع الوطني الكبير جعلت منه المشروع البديل، وحولته إلى هراوة غليظة لتدمير الآخر، وكان أن ساهمت في تدمير هذا الآخر.
 
لقد كان تدمير الآخر منهجاً مبنياً على قاعدة "أنا الأفضل"، استخدم آليات شريرة تحكمت مع المدى في القرار الذي لم يتوقف عند الصراع مع الآخر، وإنما امتد بعد ذلك الى البنية الداخلية لكل حزب لتفعل فيه فعلها توافقاً مع نفس المنهج "أنا الأفضل".
 
وكم هي المرات التي خرج فيها البعض منتصراً بالعنف والحرب ليواصل تدمير الآخر وسحقه.
 
وبدلاً من التوجه نحو بناء الدولة التي ينتظم في إطارها الجميع، دولة تحمي حقوقهم وتصون مواطنتهم، فإنهم كانوا يبتعدون عن كل ما يؤهلهم لإقامة مثل هذه الدولة من خلال تفريغ الحياة من المشروع السياسي وحقنها بالمزيد من عناصر الحروب.
 
خلال ما يزيد على ستين سنة كسرت هذه القوى مشاريعها، وطحنت نفسها، وتآمرت على بعضها وألقت بالمشروع الوطني عارياً تتقاذفه أمواج الخيبة والانكسار، وأبقت الأبواب مفتوحة أمام حركة الارتداد إلى الخلف بعد أن تم تهميش الجماهير وتغييب دورها في معركة المشروع الوطني، وحلت محلها قوى سياسية مفككة ومسكونة بالصراعات، وإذا تحركت بين الجماهير فإنما لتشوه وتدين بعضها البعض لتهدم بذلك، وعلى نحو مقصود، أحد روافع ذلك المشروع لتؤسس ثقافة العنف في أشد تجلياتها مرارة واحتقاراً للإرادة البشرية.
 
رفعت "الوحدة"، في مواجهة الدولة الوطنية، وكل القضايا العادلة ومنها قضية الجنوب، واستهلكت في الخيبات التي أسست لفشل شمل كل مناحي الحياة، وعندما استعاد الشارع ارادته، إحتشد "إيلاف" رفض الدولة والحوار ممهدين الطريق للعودة إلى العنف وفرض إرادة القوة.
 
اليوم تتسع الفجوة التي تحتشد فيها عوامل التفكك المجتمعي على نحو لم يعد فيها مشروع الدولة الوطني حاضراً بعد أن رفع الحوثيون مشروعهم الطائفي في وجه هذه الدولة، وبدا أنه يتمدد داخل أرضية مهددة بانهيارات قيمية.
لا يكفي أن تقاوم المشروع الحوثي عسكرياً، ما لم تكن هذه القوى قادرة على استعادة زمام المبادرة السياسية التي تمكنها من اكتشاف الخلل الذي أفضى إلى هذا التفكك في صف المقاومة.
 
لن يكون التحريض برفع المشروع "العدني" في مواجهة قضية الجنوب إلا مثالاً للتحريض على تعز، ولن يكون اختراق مأرب بجيوب متحصنة في مرابع الانقسام القبلي إلا نموذجاً للمنطق الغريب الذي يرى أن مقاومة الساحل الغربي تتم خارج بيئتها، ولن يكون البحث عن كبش فداء لهذه المأساة غير تكرار ممجوج لتاريخ سياسي هزيل، يصر البعض على تبنيه بدوافع سياسية تمهد لطبخة متعفنة.


*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر