من أطرف الكتب التي قرأتُها عن ظاهرة الانقلابات العسكرية كتاب الدكتور زين الدين حماد "الانقلابات العسكرية.. التخطيط، التنفيذ، التثبيت" الذي نشر المركز المصري للدراسات السياسية في إسطنبول خلاصته على موقعه، بعنوان: "كيف تصنع انقلابا عسكريا ناجحا." 


وقد لفت نظري على وجه الخصوص ما ورد في الفصل الخاص من الكتاب عن "فرص" الانقلابات العسكرية، أي الظروف السياسية والقانونية والاجتماعية المعينة للانقلابات العسكرية. فقد جعل المؤلف أول الفرص المعينة للانقلابات العسكرية هي "ضعف أو انعدام الحياة الدستورية." ثم شرح ذلك بالقول: 

"في الديمقراطيات المستقرة يتراكم لدى عامة الناس فهم للمعنى القانوني للحكومة وأساس شرعية القيادة، ولا يقبل الناس الانقلابات العسكرية. بل هم يتمسكون بمبدأ الشرعية وإجراءات انتقال السلطة سلميا، حتى ولو كانوا يكرهون القيادة القائمة. على عكس الدول التي تتحكم القوة أو العُرف في انتقال السلطة فيها، فإن شعوبها لا ترفض الانقلابات ولا تقاومها، بل هي تدعمها في أكثر الأحيان، أملا في حصول شيء ما أفضل مما هي فيه.. فانقطاع الصلة التعاقدية القانونية بين القيادة المستهدَفة [بالانقلاب] وشعبها -بما يفرزه من سلبية سياسية لدى عامة الشعب- هو الشرط الأول لجعل ذلك البلد مؤهلا للانقلابات العسكرية الناجحة.. فالشعوب التي تطيع قادتها بسهولة دون مساءلة أو اعتراض تتخلى عنهم بسهولة دون مساءلة أو اعتراض." (ص 15).

 

وهذه الملاحظة الأخيرة ثمينة حقا، والتاريخ العربي المعاصر ناطق بصحتها. فكم من حاكم سقط بانقلاب عسكري في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين، فما ذرف الناس من عيونهم دمعة، ولا أطلقوا من صدورهم آهة؛ بل تعاملوا مع الأمر وكأنه حدث باهت في بلد بعيد، لا تربط بينهم وبينه صلة، وسلَّموا بالإذعان للمنقلِب بسهولة، كما سلموا للمنقلَب عليه بسهولة من قبل. 

 


لكن ما يريد مؤلف الكتاب أن يلفت نظر القارئ إليه في هذا النص، هو أن نجاح الانقلابات العسكرية لا ينبني فقط على الشروط العسكرية والفنية والأمنية التي يحتاط الانقلابيون دائما لتحقيقها -وقد شرحها المؤلف في الكتاب بإطناب- وإنما على شروط ثقافية وسياسية ودستورية، هي أهمُّ وأعمق من كل تلك الشروط ذات الصبغة العملية. 

 


وقد رجع الدكتور حماد إلى هذا الموضوع في الفصل الخاص بـ"التخطيط" للانقلاب، فأوضح أن خطة الانقلاب الناجح لا بد أن تشمل تحييد الأحزاب والحركات السياسية، خصوصا في ساعات التأرجح الأولى، لأن هذه الأحزاب والحركات "قد تضر بالانقلاب إذا تمكنت من تسيير مظاهرة عنيفة تتحدى سلطة الانقلابيين المتأرجحة" (ص 41).

 

إن حاجز الثقافة السياسية والدستورية الناضجة هو أهم الحواجز المانعة من الانقلابات العسكرية. وما يمنع الانقلابات العسكرية في الديمقراطيات العريقة اليوم ليس عجز الجيوش عن الإطاحة بالسلطة المدنية، بل المانع الحقيقي هو أن ثقافة المجتمعات في تلك الدول -بما فيها ثقافة الجيوش- لا تستسيغ الانقلابات على السلطة الشرعية من الناحية الأخلاقية والقانونية. وما رأيناه في تركيا خلال الانقلاب الفاشل الأخير يدل على تطور عميق في اتجاه الثقافة السياسية والدستورية الناضجة، التي تُكسب الدول مناعة ذاتية ضد الانقلابات العسكرية. 

 

وقد اتضح من الهبَّة الشعبية الشجاعة ضد الانقلاب، واعتراض قيادات فعالة في الجيش التركي عليه، والدور الرائد الذي اضطلعت به الشرطة والقوات الخاصة في وأده، وتنديد كافة القوى السياسية به من البداية.. على أن ما شهدناه في تركيا تعبير عن إرادة جمعية وثقافة عميقة، لا مجرد مواقف سياسية عابرة، أو تعلُّق بشخص الرئيس رجب طيب أردوغان؛ فبعض المعترضين على الانقلاب هم من أشرس المعارضين للرئيس أردوغان. 

 

ولست بالذي يقلل من شأن الزعيم أردوغان، كما يفعل الناطقون باسم الثورة المضادة العربية، وبعض القوميين العرب الذين لا يزالون مستأسرين لصراعات التمايز القومي بين العرب والأتراك في مطالع القرن العشرين. فليس من ريب أن أردوغان من عظماء القادة السياسيين في عصرنا، وأن شجاعته وروح المبادرة والمغامرة لديه كانت من العوامل المهمة التي قتلت الانقلاب في مهده، وتأييده الكاسح بين الجماهير العربية اليوم يرجع إلى أنه عنوان ملحمة الحرية والبناء في بلده الذي تجمعه مع العرب أرحام الدين والتاريخ والجغرافيا.

 

كما أن تركيا تحت حكمه أصبحت منارة للحرية وملجأ للأحرار من العرب الذين ضاقت بهم أوطانهم. لكن ما رأيناه خلال الانقلاب الفاشل في تركيا أعمق من دور أردوغان أو أي قائد سياسي آخر، وهو يعكس تطورا كبيرا على سلَّم الثقافة السياسية.

 

وبيان ذلك أن المجتمعات ذات الثقافة السياسية الناضجة يهتم الناس فيها بمبادئ الحكم أكثر مما يهتمون بأشخاص الحكام، وبعبقرية النظام السياسي أكثر من عبقرية القائد السياسي، ويدركون أن بناء مظلة دستورية تضمن العدل والحرية للجميع أهم من فوز أي طرف سياسي، حتى ولو كان حزبهم أو طائفتهم. وبهذا الوعي يتبلور ميثاق أخلاقي في ضمائر الناس وفهم عميق في عقولهم أن الاستبداد هو العدو، وأن المنافس السياسي ليس عدوا مهما كان حجم الخلاف معه، ما دام يعمل ضمن المظلة الدستورية الجامعة التي تضمن الحرية والعدل للجميع. 

 


أما المجتمعات ذات الثقافة السياسية الضحلة، فيتحول فيها الصراع بين الحرية والاستبداد صراعا شخصيا، أو طائفيا، أو حزبيا. وتضيع المبادئ الجامعة، لصالح البرامج الحزبية، والانفعالات الأيديولوجية، والمطامح الشخصية. ويتحول التنافس مع الخصوم السياسيين إلى حرب وجودية. وما أسعد المستبد بهذه الثقافة السياسية العليلة، وهذه الأنانية الأخلاقية المهلكة! فبقليل من الإغراء والإغواء، والتخويف والتهويل، والدعاية والتضليل، يمسك المستبد بزمام السفينة، ويقود ركابها الأنانيين الحمقى إلى حتفهم. فإن سعَى لتقريب بعضهم وتبعيد البعض، فإنما غايته هي ضرب بعضهم ببعض، وحرمانهم من بناء أي إرادة جمعية، لتسهيل استعبادهم وإخضاعهم، والاستعلاء عليهم جميعا، طبقا للمنطق الفرعوني: "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا." (سورة القصص، الآية 4).

 

ولعل أبلغ مثال على هذا التفاوت في الثقافة السياسية والأخلاق السياسية هي المقارنة بين الانقلاب الناجز على الرئيس محمد مرسي، والانقلاب الفاشل على الرئيس رجب طيب أردوغان، إذ يوجد شبه كبير بين الانقلابين من حيث السياق الجغرافي والإستراتيجي وحتى الفكري. فكلا البلدين دولة مسلمة كبرى من دول حوض المتوسط، وكلاهما بلد محوري في إستراتيجية النفوذ الأميركي، وكلاهما وصلت إلى حكمه قوة إسلامية تعاديها أميركا وإسرائيل، وكلا الرئيسين (أردوغان ومرسي) منتخب انتخابا نزيها، وقد حصلا على نسبة متقاربة من أصوات الناخبين. كما تدل قرائن متواترة إلى تواطئ أميركا وإسرائيل -مع نخب عسكرية في البلدين- في الانقلاب على السلطة الشرعية فيهما. 

 

لكن الثقافة السياسية في تركيا ومصر تختلف اختلاف جذريا اليوم. فقد وصل أردوغان إلى السلطة ضمن مسار سياسي طويل، وهو اليوم يترأس بلدا نضجت ثقافته السياسية، وصلُبت مؤسساته الدستورية، وتراجعت فيه الأنانية السياسية المُهلكة لصالح الإرادة الجمعية، رغم كل الخلافات الأيديولوجية والطائفية والعرقية الموجودة فيه. ووصل مرسي إلى السلطة فجأة بعد ثورة شعبية، وفي بلد استعبدت قيادة الجيش نخبه العلمانية لعقود، واتخذتها مطية للفساد والاستبداد. فدرجت هذه النخب على العبودية السياسية والوثنية السياسية، وسادت في صفوفها الأنانية المقيتة، حتى أصبح بعضها مستعدا لذبح منافسيه السياسيين من الإسلاميين، سعيا لكسب حزبي تافه، أو منصب سياسي فارغ، من فتات مائدة العسكر.

 


ولم تكن القوى الإسلامية المصرية بعيدة عن الأنانية السياسية وقِصَر النظر، حين عاملت منافسيها السياسيين من داخل مظلة الثورة على أنهم أعداء، ومدت يد التفاهم -غفلة وبلاهة- لأعدائها وأعداء الثورة من قادة الجيش. صحيح أنه لا مقارنة بين أخطاء الإخوان المسلمين وخطايا خصومهم من الناحية الأخلاقية، فأخطاء الإخوان في مصر كانت قصورا في التقدير وبلاهة سياسية، وخطايا غيرهم كانت خيانة لمبادئ الثورة وخروجا على ميثاقها الأخلاقي؛ لكن الطرفين يشتركان في جوهر المشكلة الذي يهمنا هنا، وهو ضعف الثقافة السياسية والدستورية، وترجيح البرامج على المبادئ، واختلال الأوليات في سياسة العداوات والصداقات.

 

إن الهبَّة الشجاعة التي انطلقت في تركيا، فنسفتْ أحد أخطر الانقلابات العسكرية، في إحدى أخطر المفاصل من تاريخ تركيا المعاصرة، تدل على تطور كبير في الثقافة السياسية، ونضج كبير للأفكار والقيم السياسية، وصلابة في المؤسسات الدستورية التركية. أما الاستسلام السهل للانقلاب العسكري في مصر -وهو انقلاب مُجاهر أقرب إلى الابتزاز العلني منه إلى الانقلاب العسكري المستتر- فهو يدل على أن الثقافة السياسية في مصر خاصة -وفي البلاد العربية عامة- لا تزال تنتظر الكثير من النضج. 

 

وشبيه بالحالة المصرية تعامُل النخب العلمانية التونسية مع حركة النهضة، والابتزاز الغوغائي الذي مارسته تلك النخب الأنانية ضد الحركة؛ ولولا أن قيادة النهضة اتخذت قرارا حكيما بتغليب مصلحة الثورة على مصلحة الحزب، لكان ذلك الابتزاز قد قضى على الثورة التونسية، وهدم بناءها على رؤوس الجميع. 

 

ونفس الشيء يقال عن غدر الحوثيين بالثورة اليمنية بتشجيع من إيران، ومدِّهم أيديهم لعدوهم السابق علي عبد الله صالح، رغم أن الثورة في اليمن هي الأرضية التي كانت ستوفر لهم ما كانوا يطالبون به من مصالح فئوية ضمن دولة ديمقراطية حرة تتسع لكل أبنائها. 

 

ومثل ذلك يقال في تردد بعض الحواضر السورية في الالتحاق بالثورة في بداياتها، مما أتاح لسفاح دمشق أن يدمر مدن البلاد بالتقسيط. وكذلك المصاعب التي تحول بين النخب الليبية وبناء دولة ديمقراطية على أشلاء نظام القذافي؛ فكل الثورات العربية عانت -ولا تزال تعاني- من ظاهرة الأنانية السياسية. 

 

فإذا كان من درس يتعلمه العرب من هبَّة الشعب التركي البطولية، التي أفشلت الانقلاب العسكري الغادر، وأنقذت البلاد من الاستبداد والحرب الأهلية، فهو ضرورة بناء ثقافة سياسية عربية جديدة، تتحرر من الأنانية السياسية، وترجِّح القيم السياسية على البرامج الحزبية، وتُعلي إرادة الجماعة والخير العام على مطامح الأحزاب وأهواء الحكام.

 

*الجزيرة نت

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر