ما بعد العار 


عبد الحليم قنديل

التطبيع عار وخيانة، كان ذلك واحدا من شعارات عمل الحركة الوطنية المصرية، ظهر مجددا بعد عقد اتفاق تطبيع «الإمارات» مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، لكنه تحول إلى مجرد «هاشتاغ» ـ وسم ـ على مواقع التواصل الاجتماعي، في إشارة لا يُخطَأُ مغزاها على انحسار الشعور الوطني والقومي، والانتقال البائس من الكفاح في الواقع إلى المعارضة الافتراضية في فضاء الشبكة العنكبوتية، وتدهور مناعة الجسد العربي، وبؤس أحوال الأمة التي صارت أقرب إلى أمة افتراضية، فالأمة التي تفقد الحس بالمحرمات والمقدسات، تتراجع عن وجودها ككيان حي، وتتحول إلى غبار بشري تائه في فراغ، مع عدم إنكار وجود استثناءات هنا أو هناك، بدت كنتوءات مقاومة شارع واهنة، وخارجة عن متن الموات العام. 

  

ولا أحد يتوقع بالطبع، أن يحدث شيء مما جرى عند توقيع ما سُمي «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية» قبل أكثر من أربعين سنة، وقد أنهت حالة الحرب، واستعادت «سيناء» التي تساوي ثلاثة أمثال ونصف المثل مساحة فلسطين المحتلة بكاملها، وأقامت ما تسمى علاقات طبيعية بين مصر وإسرائيل.  

 

وقتها كان الشعور القومي لا يزال في كثير من عافيته، واضطر أغلب الحكام العرب إلى إعلان قطع العلاقات مع حكم السادات، وهو ما تغيرت صورته بعدها بسنوات، وعادت الجامعة العربية إلى مقرها الأصلي في القاهرة، ولكن من دون أن يضعف شعور الحركة الوطنية المصرية، التي عارضت واقعيا ـ لا افتراضيا ـ  

 

كل صور التطبيع العلني المتصل بالجمهور، ونجحت في حصارها جميعا، بل وقامت من صفوفها منظمة مسلحة، كانت تنظيما سريا ناصريا عرف باسم «ثورة مصر» توجهت عملياتها لاصطياد جواسيس إسرائيل وضباطها السريين في القاهرة، ثم حوكم أفراد المنظمة، وكان بينهم الراحل خالد عبد الناصر نجل قائد الأمة العظيم جمال عبد الناصر.  

 

وبفضل تضحيات هائلة للوطنيين المصريين، انتهى أي وجود لممثلي كيان العدو الإسرائيلي في الحيز المصري العام، ثم جرى إحراق السفارة الإسرائيلية نفسها، وانتقل السفير الإسرائيلي إلى مخبأ سرى في ضاحية «المعادي» لا يزور ولا يزار، إلا في مناسبات رسمية نادرة محمية أمنيا.  

 

وصار «التطبيع» جريمة ماسة بالشرف، لا يملك الذين يرتكبونها فرصة المجاهرة بها علنا، وصارت العلاقة مع إسرائيل من أمور الأمن المغلقة، مع استمرار سريان «اتفاق الكويز» الموروث من عهد المخلوع مبارك، وإضافة اتفاق شراء وتسويق الغاز، وكلها مما يعارضه أغلب المصريين، فقد ظل الشعب المصري بكتلته الأعظم، أكثر الشعوب العربية كراهة لإسرائيل، تماما كالجيش المصري الذي قدم في الحروب مع إسرائيل مئة ألف شهيد وجريح ومعاق، وداست قواته في السنوات الأخيرة كل شروط ومناطق نزع السلاح في سيناء، برغم بقاء قيودها ونصوصها معلقة في أوراق ما يسمى معاهدة السلام، التي لم تلغ رسميا إلى اليوم.  

 

وشيء مما حدث في التجربة المصرية تكرر في التجربة الأردنية بعد عقد معاهدة «وادي عربة» قبل ربع قرن ويزيد، فقد ظل شعب الأردن في غالبه معارضا للتطبيع الرسمي واتفاقاته. هكذا كان ولا يزال، ربما لأسباب وقوع الأردن كمصر في القلب العربي المحيط مباشرة بإسرائيل، إضافة لاتصال الشعور المباشر مع قلب فلسطين، وكون الكثرة الراجحة من سكان الأردن من ذوي الأصول الفلسطينية.  

 

والمعنى مجددا أن الشعور الكاسح عند السكان في مصر أو في الأردن، ظل على حصانته الظاهرة، وبصورة جعلت السلوك الرسمي في وضع معلق، بينما الشعور الشعبي راسخ، وعظيم الإنكار والاستنكار لأي علاقة سلام افتراضية مع كيان العدو الإسرائيلي. 

   

وقد لا يصح توقع حصانة من هذا النوع في حالات التطبيع الخليجي، وهي كثيرة ومتواترة وسرية ونصف سرية، ثم صارت علنية تامة في حالة «الإمارات» القابلة للتكرار في الجوار، وبصورة فظة، ربما تستند موضوعيا إلى حالة غالب المجتمعات الخليجية الراهنة، فكل نظم الحكم عائلية وراثية، وموارد ثرواتها الهائلة طبيعية موهوبة لا إنتاجية بشرية، بينما المجتمعات صارت هجينا مفتتا خطرا، مع الوفود الآسيوي الغريب المتكاثر المتناسل لأجيال، ولا يشكل السكان الأصليون العرب فيها سوى نحو نسبة الخمس، وإلى حد صار العربي فيها «غريب الوجه واليد واللسان» على حد تعبير قديم بليغ للمتنبي. 

 

إضافة لكون هذه المجتمعات بعيدة جغرافيا، ولم تشارك في صدامات وحروب مباشرة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعني ضعفا ظاهرا في «الذاكرة الجماعية» المعادية لإسرائيل، وضعفا موازيا في ردود الأفعال المتوقعة، وقفزا خافتا إلى معارضات الفضاء الافتراضي، وهو ما قد يشجع حكام الخليج عموما على مزيد من الاستهانة بالناس، والتسابق إلى التطبيع مع إسرائيل، بل والتنافس على نيل رضا تل أبيب، تماما كما تسابقوا ويتسابقون في منافسة شرسة، موضوعها الرئيسي استضافة القواعد العسكرية الأجنبية، والأمريكية منها بالذات، حتى لو بدا بعض الحكام عدوا للبعض الآخر، ومتحاربا معه على اصطناع دور إقليمي بفوائض الأموال المتاحة. 

 

والمحصلة، إننا أمام قفزة تطبيع جديدة، قد يصح وصفها بالعار الإضافي، لكن التعبير يبدو قاصرا، فنحن في مرحلة ما بعد العار وما بعد الخيانة، وقد لا نتوقف هنا عند لوم الحكام، فقد انتهى أمرهم من زمن، ولم تعد الخيانة عندهم، مجرد «وجهة نظر» كما تنبأ وحذر الشهيد الفلسطيني الروائي غسان كنفاني قبل خمسين سنة، بل صارت خيانة فلسطين هي وجهة النظر السائدة عند أغلب الحكام العرب، لكن الخطر الأعظم يبقى عند القواعد الشعبية الواسعة، التي جرى إنهاك وتفتيت شعورها على موجات، وهى لا ترى سوى الدماء والحطام من حولها، أقطار عربية تتمزق، وشهداء يسقطون بمئات الألوف وبالملايين، وفي حروب مهلكة، لا صلة ظاهرة لها بإسرائيل. 

 

 بل حروب طوائف وقبائل وجماعات سبي وقطع رؤوس، تتنكر أول ما تتنكر لمعاني الأوطان وحرمات الأمة، وتدخلنا عصور القتل لمجرد القتل، وتحت رايات يمين ديني كذوب، تنتحل صفة الإسلام غالبا، وتزيح من الذاكرة الجماعية أولوية العداء لإسرائيل، وأولوية قضية فلسطين بمركزيتها العروبية، وتفتح جراحا جديدة نازفة تكاد تنسينا الجراح القديمة، وتصيب عقل رجل الشارع العربي بحالة دوار، تسهل معها عمليات سرقة وتزوير الأحلام، واستبدال الوجدان، وإحلال الغريب محل القريب، وتغليب الإحساس بعدم جدوى المقاومة، في مقابل أفضلية المساومة وتسقط الفتات. 

 

ومن حق الفلسطينيين بالقطع، أن يكونوا الأكثر حزنا على تدهور أحوال العرب من حولهم، وعلى تفاقم طبع «الخيانة الخلقية» الذي صار فطرة أغلب الحكام العرب، وعلى تراجع الشعور الشعبي العربي بأولوية القضية الفلسطينية. ومن حق الفلسطينيين أن يحرقوا الصور، أو أن يعبروا عن غضب طافح في مسيرات بالضفة أو غزة، أو في بيانات تصدرها القيادة الفلسطينية، لكن ذلك كله لم يعد مفيدا ولا مؤثرا، إلا ربما في مضاعفة المشاعر المرضية، ونشر شعوبية مقيتة منهكة، تزيد الشعور المفتت تفتيتا، وبما لا يفيد سوى إسرائيل في البدء والمنتهى. والأفضل، فيما نتصور، أن يجد الشعب الفلسطيني طريقه لاستعادة وهج قضيته، وإعادة تركيز معنى كفاحه في الوعي العربي الشعبي بعامة. 

 

 فالرد على أي خطوة تطبيع جديدة من أي حكومة عربية، قد يصح له أن يبدأ بتشديد النضال الفلسطيني ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي، بدءا بمراجعات جوهرية لوضع الحركة الوطنية الفلسطينية، وهو ما لم يحدث على أي نحو مقنع، فقد رأينا ـ مثلا ـ إجماع «فتح» و «حماس» على معارضة اتفاق التطبيع الإماراتي، واجتماع مشترك لفتح وحماس مع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، كان الأوجب أن ينتهي بما هو أبعد من إصدار بيان استنكار، وأن يؤدي ـ مثلا ـ لإنهاء صراع فتح وحماس، أو الاتفاق على دمج حماس، و«الجهاد» الإسلامي، في بنية موحدة جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، تزيل عار وعوار الانقسام المزمن بين سلطة رام الله وسلطة غزة، وهو ما لم يحدث لعظيم الأسف. 

 

وما من علامة مؤكدة على إمكانية حدوثه قريبا، وهذا واحد من أبرز وجوه الخلل الفادح في الوضع الفلسطيني، ناهيك عن غياب خطة مقاومة جامعة، وغياب هدف جامع، بدلا من ترهات الدويلة الفلسطينية التي سقطت، والتردد في إلغاء اتفاق أوسلو، والتلكؤ فى إسقاط قرار المنظمة الاعتراف بشرعية لوجود إسرائيل على حدود ما قبل 1967، وكلها عثرات وخطايا تسهل مهمة الحكام العرب في نشر عار التطبيع وخياناته المتلاحقة. 

 

 

*نقلاً عن القدس العربي 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر