الخُمس والمرجعية الدينية


ميساء شجاع الدين

 
أثار قانون الزكاة الذي أصدرته أخيرا سلطة الأمر الواقع في صنعاء ضجة كبيرة في أوساط اليمنيين، بسبب ما تضمنه من تخصيص خُمس الموارد للمعادن والثروات البحرية لفقراء بني هاشم حسب نص القانون. اعتبر كثيرون القانون تجسيداً سافراً للعنصرية في عهد الحوثي الذي يخصص موارد كبيرة لفئة من المجتمع لا يصل تعدادها إلى 10%، في أحسن الحالات، وهذا كله في مجتمع فقير وجائع.
 
تعذّر الحوثيون، وكثيرون ممن يدورون في دائرتهم، بأن القانون هو تحديث لقانون الزكاة لعام 1999، وأن الخُمس أقرّته التشريعات السنية. ويلتفّ هذا التحجج على حقيقة مهمة، هي سبب الغضب الاجتماعي العارم تجاه القانون، وهو أن ذلك القانون، المستند إلى المذاهب السنية، أقرّ بالخُمس، أي خُمس أرباح ما يعتبر كنز أي من ثروات أرضية، يستخرجها الإنسان، مثل الفضة والذهب والأسماك، من دون تخصيصها لبني هاشم، بل للفقراء عامة، كبقية بنود الزكاة.
 
وفي الواقع، تحوّلت مهاجمة الخُمس من منظور فقهي المسألة إلى قضية جدلية فقهية، وبما أن الحوثيين يلتزمون بالتشريع الزيدي، فالخُمس وتخصيصه لبني هاشم فكرة أصيلة بالمذهب لا يمكن تجاوزها، وهم لا يفعلون شيئاً سوى تطبيق الشريعة، حسب منطلقاتهم المعروفة.
 
وهنا تبرز عدة إشكاليات، أولاها: إن الحوثي، مثل بقية تيارات الإسلام السياسي السني، بما فيها تنظيما الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، يستند إلى مرجعيات فقهية، وأدلة تاريخية لا يمكن التشكيك فيها، مع فرق أن "داعش" و"القاعدة" وغيرهما من تيارات سنية راديكالية تتبع أفكارا سنية متشدّدة، ومنتقاة بعشوائية، من دون دراسة لسياقاتها الزمنية. بينما يستند الحوثي، في معظم الوقت، إلى أفكار زيدية تنتمي للتيار العام للزيدية، ولا يحتاج لانتقائها، لأنها تخدم هدفه في إحياء مفهوم اصطفاء آل البيت، وهو مفهومٌ واضحٌ وصريحٌ لدى المذهب الزيدي، ولا يقتصر على تيارات راديكالية فيه.
 
ثانيها: تمتد فكرة الاصطفاء لآل البيت، حسب الحوثي، من اقتصار القيادة السياسية عليهم إلى كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مثل الزواج والزكاة، إضافة إلى اقتصار المرجعية الدينية عليهم، وهذا أمرٌ يختلف عن فكرة اشتراط الخلافة على قريش لدى السنة، والذي تجاوزته عملياً. الاصطفاء لدى المذاهب الشيعية يشمل مناحيَ كثيرة، كالتشريع والمكانة الاجتماعية، ليس فقط القيادة السياسية، كما إنها فكرة جوهرية لدى مذاهب كانت قضية شرعية النظام محورية في فكرها السياسي، بينما انشغل الفكر السياسي السني بقضية شرعنة النظام الحاكم، حفظاً للأمن والاستقرار ودرءاً للفوضى.
 
ثالثها: حاولت قياداتٌ زيديةٌ في بداية التسعينات إجراء تغييرات جذرية في المذهب الزيدي، وإعلان تخليها عن فكرة الهاشمية والإمامة، باعتبارها من المفاهيم البالية، لكنها أخفقت في استقطاب بعض المرجعيات الدينية الزيدية المهمة، مثل مجد الدين المؤيدي وبدر الدين الحوثي والد حسين وعبد الملك الحوثي.
 
ولم يصمد التيار الإصلاحي الزيدي طويلاً أمام التيار الذي يمكن اعتباره الزيدي التقليدي أو السلفي، والذي تصاعد مع بروز حسين الحوثي في عام 2000، وهذا نجح في استقطاب الناس بخطاباته العاطفية، ليس بالعمل النخبوي الذي انتهجه التيار الزيدي السياسي المعتدل. ظهر حسين الحوثي في مرحلة إقليمية حرجة في أثناء تداعيات هجمات "11 سبتمبر" وغزو العراق وانخراط اليمن في الحرب ضد الإرهاب، وكذلك في غضون ظروف داخلية معقدة، مع تزايد معدلات الفساد والفقر واحتقان الوضع السياسي بين التيارات المختلفة، إضافة إلى تصاعد احتجاجات الحراك الجنوبي، وقد ساهم هذا كله في صعود نجم رجلٍ كان يلقي خطاباتٍ شعبويةٍ تلعب على أوتار المهانة والغضب التي يشعر بها الناس.
 
ويتناسب فشل المذهب الزيدي في التخلص من عبء الإمامة مع كل محاولات تيارات الإسلام السياسي المعتدل مواءمة الدين الإسلامي مع الدولة الحديثة، لكنها أخفقت لتصعد موجة التيارات الإسلامية الراديكالية، وينجرف التيار المعتدل، سواء لأسباب الصراع الإقليمية أو بسبب نخبويته أو انغلاقه السياسي في دائرة أتباعه لا أكثر، إضافة إلى عجزه الحقيقي في محاولات المواءمة من قبيل أن الديمقراطية هي ذاتها الشورى، ومحاولة تأصيل كل فكرة في الدولة الحديثة بالإسلام. وقد تفاوتت تجارب الحكم السياسي في مرحلة الخلافة، وكذلك نظريات الحكم السياسية، لكنها عملياً كانت تعطي للحاكم شرعيةً، سواء بمنطق القوة والغلبة، أو بمنطق التوريث، وجميعها يتناقض مع مفاهيم الدستور، أبرز أساسيات المرجعية السياسية للدولة والديمقراطية، كأبرز الأطر السياسية النموذجية للدولة الحديثة، كما إن الدولة الحديثة تتعامل مع المجتمع كأفراد، سواء أكانت ديكتاتورية أم ديمقراطية، خصوصا إنها تمتلك مقومات التدخل في كل تفاصيل حياة الناس من خدمات، مثل كهرباء ومياه أو دراسة وعمل، بينما كانت الدولة غير الحديثة تتعامل مع مجموعاتٍ داخل المجتمع، تتوزّع حسب الرقعة الجغرافية والأصول والمهنة، والأهم أن هوية الأمة كانت الدين، وليس القومية.
 
 لذا لا يمكن تأسيس دولة حديثة على أسس إسلامية من دون أن يصطدم بمفاهيم الفردية الخاصة بالمواطنة والغلبة وطاعة ولي الأمر، وكلها لا تتماشى مع مفهوم الانتخابات، كما إن الهوية الأممية الدينية تناقض مفهوم المواطنة المعاصرة، بغض النظر عن الدين. وتجربة الزيدية في الحكم أيضاً معروفة، وهي مثل السنة تتناقض بين النظرية المثالية والتطبيق العملي، وهي تجربةٌ تستند إلى فكرة جواز التمرّد على الإمام غير العادل، ما جعله نمط حكم مضطرباً، إضافة إلى مفهوم اصطفاء آل البيت.
 
 لذا لا يمكن إحياء دولة على أسس زيدية خارج هذه المفاهيم. ولم تنجح تيارات الإسلام السياسي في تثوير فكرها، وملامسة إشكالاتها الحقيقية مع الدولة الحديثة، والخروج عن دائرة المواءمة والتلفيق، كرد فعل لنموذج جاهز من دون ابتكار، وهذا أيضاً يفقدها جمهورها الذي يراها تعبيراً عن أصالته وهويته أكثر من الأحزاب والتيارات العلمانية.
 
لهذا كله، يبدو الحديث حول الخُمس من منظور فقهي دورانا في دائرةٍ مفرغةٍ حول مرجعياتٍ دينيةٍ، تتناقض مع الدولة الحديثة، فمفهوم الخُمس وتمييز آل البيت أو اختصاص قريش بالخلافة كانت مقبولةً ضمن سياق مجتمعات العصر الوسيط، حيث كان ينقسم المجتمع طبقياً حسب الأصول، بينما الآن يعتبر هذا الشكل من التمييز عنصرية بالمفاهيم الحديثة.
 
وتكمن أكبر مشكلة في الحوثي ليس فقط بأنه امتداد للإمامة التي وصفها بيان زيدي، في بداية التسعينات، بأنها منظومة بالية عفا عليها الزمن، بل أنه أيضاً يمتلك المقومات الاستثنائية للدولة الحديثة من أدوات قمع تعطيها قدرات غير مسبوقة في التحكّم بالمجتمع والتدخل في أبسط القضايا.
 
تستطيع الدولة الحديثة، بما تمتلكه من قدرات عسكرية وأمنية ووسائل إعلام، أن تكون شمولية وقمعية بشكل غير مسبوق لأشكال الدول الأخرى عبر التاريخ. لذا سوف يُصاحِب فرضَ مفاهيم الاصطفاء الحوثي على المجتمع اليمني كثيرٌ من القمع والعنف، خصوصا أن مفاهيم المجتمع وأنماطه تغيرت خلال جيلين بعد ثورة الجمهورية عام 1962، إضافةً إلى انفتاح اليمن على العالم، ووعي الناس المتزايد بأن مفاهيم الاصطفاء ليست قدرا لا يمكن لهم سوى قبوله.
 

* نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر