الديمقراطية الصومالية مجدّداً


نبيل البكيري

أعلنت مفوضية الانتخابات العليا الصومالية، أخيرا، أن العام ما بعد المقبل (2021) سيكون عاما ديمقراطيا بامتياز، حيث سيتم إجراء أول انتخابات ديمقراطية عامة في الصومال لأول مرة منذ نصف قرن، منذ إجراء أول انتخابات ديمقراطية تمت عام 1967، وكانت أول انتخابات ديمقراطية في أفريقيا.
 
وكانت الصومال بمثابة الدولة الديمقراطية الوحيدة في القارة السمراء وأطراف العالم العربي التي خرجت من قبضة الاستعمار إلى رحاب نظام ديمقراطي تعدّدي لم تشهد مثله المنطقة كلها. في ستينات القرن الماضي، حصلت معظم دول أفريقيا على استقلالها من المستعمرين الأوروبيين الذين سلموا الحكم في تلك البلدان لحلفائهم وعملائهم الذين ظلوا ممسكين بالحكم فترة طويلة باستثناء الحالة الصومالية التي اختارت المسار الديمقراطي خيارا وحيدا للوصول إلى الحكم حينها.
 
حصلت الصومال عام 1960 على استقلالها شمالا من الاحتلال البريطاني، وجنوبا من الاحتلال الإيطالي. وعلى الفور، تم إعلان توحيد الصومال في دولة جمهورية ديمقراطية مستقلة، برئاسة آدم عبد الله عثمان (1908 - 2007)، وكان قائدا لحركة الاستقلال الصومالية التي كانت في مقدمتها عصبة الشباب الصومالي التي أسسها الرئيس عثمان ورفاقه.
 
تولى الحكم في الصومال، سبع سنوات، وقرّر الذهاب إلى انتخابات ديمقراطية شعبية عامة، تنافس فيها مع رئيس وزرائه حينها عبد الرشيد شرماركي الذي فاز على الرئيس آدم بفارق بسيط في الأصوات، وعلى أثرها سلم عثمان السلطة، في بادرة هي الأولى والأغرب في تلك المرحلة، مقرّرا العودة إلى بيته ومزرعته.
 
لم يكن آدم عبد الله عثمان شخصا عاديا، كان مناضلا وسياسيا وقائدا وطنيا، أسّس حزب عصبة الشباب الصومالي حركة قومية وطنية، ناضلت ضد الاستعمار البريطاني، حتى تمكّنت من نيل استقلال شمال الصومال، وقاد عملية توحيد شمال الصومال مع جنوبه المستقل حينها عن الاستعمار الإيطالي، فجمع حينها بين تأسيسه الجمهورية وإسهامه في توحيد الصومال.
 
وتبنّى أيضا الديمقراطية خيار حكم ونظام، بعد عملية التقسيم الاستعماري للصومال الطبيعي، فخاض أول انتخابات ديمقراطية شفافة بعد الاستقلال بسبع سنوات، أي في 1967. ثم انقلب سياد بري على شرماركي عام 1969، وأوقف التجربة الديمقراطية الصومالية الوليدة بانقلاب عسكري، أدخل الصومال في دوامة أزمة سياسية عاصفة عشرين عاما، انتهت بحروبٍ وصراعات مدمرة ومريرة استمرت نحو عقدين.
 
كانت تلك اللحظة الديمقراطية التي أسس لها آدم عبد الله عثمان بمثابة البذرة التي لا تزال تعتمل في سلوك الشعب الصومالي ووعيه وثقافته، وحاول انقلاب سياد بري العسكري إطاحة الديمقراطية الوليدة والفريدة حينها في محيط من الدكتاتوريات العسكرية والعشائرية، فقد انهارت الدولة الصومالية عام 1991 بعد عشرين عاما من سيطرة العسكر عليها، ودخلت البلاد دوامة الحروب الأهلية التي قضت على كل معالم الصومال، الحديث والمتقدّم حينها، الصومال الديمقراطي الجمهوري المدني التعدّدي.
 
وعلى أثر ذلك الانقلاب الذي قام به الجنرال محمد سياد بري، وشدّد من قبضته الأمنية والعسكرية على الشعب الصومالي، وفرض مسارا واحدا للسياسة والمجتمع، هو المسار العسكري الصارم، وبعض الإجراءات التي قيدت الحرية، وحاولت تغيير حتى مضمون الهوية الإسلامية القومية للصومال. وأدت تلك القبضة بطريقةٍ عكسيةٍ إلى عودة المجتمع الصومالي إلى عقدته الأولى، العقدة القبلية المستحكمة، فما إن انفجر الوضع الصومالي عسكريا عام 1991، حتى انفجر الوضع الصومالي صراعا أهليا عشائريا وقبليا غذّته بعض الأنظمة المحيطة بالسلاح.
 
مع ذلك، وعلى الرغم من انهيار الدولة والحكم في الصومال إلا أن الحنين للديمقراطية والمدنية لا يزال هاجسا يراود الشعب الصومالي، وخصوصا الجيل الشاب الذي تشكل في المنافي والشتات، وهو جيل متسلّح بالعلم والمعرفة والتأهيل العلمي والأكاديمي الحديث، الجيل الذي يحاول اليوم جاهدا العودة إلى قيادة الصومال الجديد، الصومال الديمقراطي الذي يحرص خصومه أن يظل حبيس ديمقراطية شيوخ القبائل والعشائر التي عطّلت البلد، وأبطلت مسار التنمية والاستقرار في الصومال، بفعل سهولة التحكم والسيطرة على القرار السياسي في إطار النخبة القبلية العليا للبلاد.
 
سيفتح المضي اليوم نحو المسار الديمقراطي الشعبي، خيارا وطنيا حتميا، المجال واسعا أمام الصوماليين، لإدارة لحظة التحوّل الراهنة، وسيمثل المفتاح الحقيقي لهذا الشعب التوّاق للبناء والتنمية والاستقرار. وعلى مدى الفترات السابقة، كان التبادل السلمي للسلطة الخيار الحاسم والوحيد لقيادة هذا الشعب، ولكن هذا الخيار كان يتم في إطار نخبوي محدود ومحصور برجال القبائل والنخب السياسية حصرا.
 
أما اليوم، وفي ظل الرغبة الوطنية الصومالية الجامحة التي بدأت تتشكل، وتعبر عن نفسها من خلال الفعاليات السياسية والوطنية الواسعة، فإن المسار الديمقراطي الشعبي هو الخيار الصومالي الوحيد لاستعادة الصومال قرارَه وإرادته الوطنية، فضلا عن التأسيس للحظة الشراكة الوطنية الصومالية الحقيقية، والتي ظلت غائبة طوال المراحل السابقة، وظلت رهينةً لتراتبية اجتماعية قبلية بحتة، تشكلت في ما بعد انهيار الدولة الصومالية.
 
 أما اليوم وقد عادت الدولة ومؤسساتها فلم يعد ثمّة من مبرّر لمراوحة الصومال مكانه طويلا في ظل الحالة الفيدرالية التي يشهدها الصومال، ولا مناص من إعادة هيكلتها في إطار الصومال الأم الكبير، الذي سيمثل ضمانا حقيقيا لكل أبنائه الصوماليين في الداخل والخارج.
 
مسؤولية كبيرة اليوم ملقاة على عاتق النخب الصومالية، بمختلف أعمارها وتوجهاتها، في التأسيس للمستقبل المنشود، والذي يتطلب عملا جادّا ودؤوبا لاستعادة الصومال الديمقراطي المدني التعدّدي الذي دمره العسكر، الصومال الذي كان يوما عامل استقرار لجواره ومحيطه، وهو اليوم، بعد سنوات الحرب الطويلة، وصل إلى قناعة تامة بأن لا مكان للسلاح والحرب في حياة الصوماليين، وأن المسار الديمقراطي وحده الكفيل بحل كل خلافات الصوماليين وإشكالاتهم.
 
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر