ليلة القدر.. أو "لحظة التجلي"


مصطفى راجح

هي لحظة انزلاق في الزمن تنقلك من العالم المنظور ثلاثي الأبعاد إلى العالم الحقيقي رباعي الأبعاد، العالم ثلاثي الأبعاد هو الوهم، حيث نرى الكون كما هو متجسد في عقولنا ذات التركيب ثلاثي الأبعاد.
 
أما الكون الحقيقي فهو رباعي الأبعاد وهو كون موضوعي غير مرئي، وليس مجرد افتراض رياضياتي، كون حقيقي نعيش فيه ولا ندركه بسبب تركيبة الدماغ التي لا تدرك سوى الصورة الآنية للحاضر الآن.
 
في الكون الحقيقي رباعي الأبعاد الموجودات كلها تخلق دفعة واحدة، ولا يوجد تقسيم للزمن بين حاضر وماض ومستقبل، بل زمن واحد.
 
في العالم المنظور ثلاثي الأبعاد يتم تقسيم الزمن وهميا من قبل الدماغ لأنه لا يرى سوى موضع الوجود الذي بمر به الآن " كأنه عدسة سينمائية لا ترى من الفيلم سوى اللحظة التي تبث الان، ثم تنطوي لتحل محلها لحظة أخرى".
 
ليلة القدر يمكن تفسيرها مجازا باعتبارها اختراق للحجاب، للحاجز الذي يعيق الانسان عن رؤية الوجود الحقيقي المكتمل "وجوده هو"، ورؤية الزمن غير المنقسم "والزمان هو الروح الإلهية التي بدأت الخلق وانبثت في الموجودات بواسطة الحركة اللولبية الدورانية التي تشكل الزمان اللامرئي، وتشكل حركتها الدائرية وهم انقسام الزمان والمكان كما يظهر لنا أي انها لحظة انزلاق زمني ينتقل فيها العقل من رؤية الوجود المنظور المنقسم الى اشراقة رؤية الوجود الحقيقي اللامرئي لنا واللا منقسم والذي يتوحد فيه الزمكان في كون واحد".
 
هذه اللحظة تحدث نادرا بالتأمل، بالتعبد، بالتصوف، بكل ما يجعل المرء يتخلى عن الاهتمام بالأحداث اليومية ودوائرها، الى التأمل الصافي في الذات، وصولا الى التأمل اللاواعي واللا تركيز على أي شيء بما في ذلك الذات الجوانية.. تأمل في الفراغ الممتلئ دونما ضجيج، واللا حركة الساكنة المتجاوزة في سكونها النوراني لكل حركة ولكل تغير.
 
احيانا تحدث هذه الومضات لأفراد متميزين: متعبدين، أنبياء، فلاسفة، متصوفين، بشر عاديين لم يدخلوا مدرسة ولم يعرفوا شيئا من منظومات الأديان ومنظومات فلسفية ومعرفية ووو ....
 
وكانت تأتي هذه الومضة للروائي الروسي ديستويفسكي في لحظات الصرع، وقد وصفها في احدى رواياته، قائلا - حسب ما اذكر - انها ومضة لثانية واحدة او اقل، ولكن المرء يدرك فيها كل الوجود
 
ووصفها اخرون فلاسفة وشعراء وأدباء ومتصوفون ... وحتى علماء فيزياء حديثة.
 
لكنهم لا يتحدثون عنها من منظور ديني، فهي لحظة إشراق يختلف وصفها ونمطها بين الأديان والفلسفات والكتابات الفلسفية والأدبية، ولكن مضمونها واحد.
 
أما فكرة انحصارها في رمضان عند المسلمين فلها أساس منطقي، كونه شهر يفترض فيه ان يكون شهر تأمل وتعبد وتحرر من ثقل الحواس والغرائز والانشغالات الدنيا، أو أنه هكذا صُمم دينيا، أيا كانت مآلاته وتطورات أنماطه وكيفيات عيشه عند المسلمين.
 
"فكرة" تنزيل القرآن / خلق القرآن دفعة واحدة في ليلة القدر لا تفسير لها سوى بمفهوم البعد الرابع غير المنقسم زمنيا والذي توجد فيه المخلوقات كلها دفعة واحدة، حياة واحدة كاملة / كتاب واحد كامل، ومن ثم تعرض في البعد الثالث عبر الرؤية الوهمية للدماغ، بوهم التسلسل الزمني، كحياة متقطعة تمر عبر ولادة ونمو ووو....، وعليها قِسْ.
 
يقول الشيخ أحمد ابن علوان في وصف تأملاته وتأرجحه بين البعدين المرئي واللامرئي:
 
تَمادى الشاهدان بنور عقلي
فذا يُحيي، وذاك يريد قتلــي
 
فوافقتُ المُشير إلى التَّجلـي
وخالفتُ المشير إلى الَّتخلـي
 
ولو أني نطقتُ على فــنائي
لقُلت مقالة الحلاج قبلـــي
 
ولكن شدَّ من أهــواه أزري
وقوَّى همتي وأمد عقلـــي
 
فبعضي في فنون الحب فـانٍ
وبعضي بين إخواني وأهلــي
 
فلا أدري أللإخوان أبقــــى
أم الأهلين أم لله أم لــــي
 
ولي وجهان مكـــنونٌ وبادٍ
ولي علْمان جزئيٌّ وكُلـــي
 

*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر