قبل أيام قليلة من انقلاب / حركة 13 يونيو 1974 قام الشيخ سنان أبو لحوم برحلة  - بدت غامضة حينها – الى لندن، بمبرر الفحوصات الطبية، حيث كان الأستاذ محسن العيني سفيرا ثم القاهرة حيث كان المرحوم يحي المتوكل سفيرا وعاد معه الى صنعاء، وبحسب ما سمعت من الوالد الأستاذ النعمان فقد ارتاب من العودة المفاجئة وغير المبررة  للمتوكل– وقتها – دون إذن مسبق إلا أن المتوكل بررها بطارئ عائلي أجبره على العودة، ومن الواضح – الآن – أن رحلة الشيخ سنان كانت مرتبطة بالترتيبات النهائية لإقصاء الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني وتجميد مجلس الشورى ثم حله وتعليق العمل بالدستور، وهي إجراءات مازالت آثارها ماثلة أمامنا اليوم، إذ بها انتهت أول محاولة جادة لإرساء قواعد عمل دستوري منتظم ودخلت البلاد مسار حكم عسكري نعيشه اليوم.
 
بعد أن استمع الرئيس الإرياني إلى ما شاهد النعمان وسمع في خمر، استدعى العقيد إبراهيم الحمدي ليشعره بما يدور، محسناً الظن بأن الأخير ليس شريكا رئيسيا في الانقلاب، والذس بدوره اقترح تعليق العمل بالدستور الدائم وحل مجلس الشورى وإعلان حالة الطوارئ، لكن الرئيس رفض المقترح وسانده النعمان وأبلغاه (أن هذين المنجزين هما ثمرة كفاح الأحرار، ولن يقبلا التنازل عنهما) وفضل الإرياني الاستقالة وسانده النعمان وبعثا بها كما ينص الدستور إلى الشيخ الأحمر بصفته رئيساً لمجلس الشورى، ونصحاه بدعوة المجلس لاختيار مجلس جمهوري بديل حسب النص الدستوري، لكنه بحسب اتفاق سابق مع مجموعة الضباط الذين كانوا حينها في صنعاء - كما اتضح لاحقا - أرفق رسالة الإرياني والنعمان باستقالته الى العقيد الحمدي في سابقة غريبة، وهكذا سلم رئيس الهيئة التشريعية المنتخبة الحكم إلى العسكر وأدخل البلاد في نفق الحكم الفردي، وهو دليل عدم قناعة بأسلوب الحكم المتكئ على نصوص دستورية معروفة وثابتة.
 
عاصرت تلك الأيام وتابعت مجرياتها عن قرب وسمعت مباشرة الكثير من تفاصيلها،  وأتذكر أن القاضي الإرياني فضل مغادرة العاصمة الـى تعز منهياً سنوات حكم المجلس الجمهوري كأول تجربة حكم جماعي مدنية (5 نوفمبر 1967 – 13 يونيو 1974) في العهد الجمهوري  ، وبقي النعمان في صنعاء إلى أن أبلغه رفيقه الإرياني أنه سيغادر نهائيا إلى دمشق ففضل السفر معه بعد أن أحس بقلق البقاء في صنعاء بمفرده، واستقر الإرياني في ضيافة الرئيس حافظ الأسد الذي استقبله في مطار دمشق بعد أن ودعه الحمدي في مطار تعز، وتوجه النعمان إلي بيروت وبقي فيها لإيام قليلة انتهت عند اغتيال محمد النعمان (النعمان الابن كما كانت الصحافة اللبنانية تطلق عليه) في 28 يونيو 1974.
 
حين أراجع ما سمعته وشاهدته في تلك المرحلة، احتار في توصيف ما حدث في 13 يونيو 1974 بأثر رجعي: هل كان انقلابا؟ ام حركة تصحيحية كما أطلق عليها المنفذون والمتآمرون؟
 
 
من المؤكد أن تسميتها بالحركة التصحيحية يعني أن المنفذين والمخططين كانوا بعيدين عن دائرة النفوذ والتأثير، وهذا غير صحيح لأنهم كانوا أصحاب السلطة المجتمعية الحقيقية والقوة وكان المجلس الجمهوري مجرداً من أدوات القوة عدا الإرث التاريخي لأعضائه المتمسكين بالحكم المدني وبالدستور الدائم الذي تم إقراره في 1970 وبقوا حريصين عليه إلى آخر لحظة، وأتذكر أن النعمان عبر للفليسوف اليمني أبو بكر السقاف في القاهرة - بحضوري – عام 1981 عن إحباطه من تردي الأوضاع ومن الخسارة الفادحة التي يشعر بها جراء الانتهاكات التي تحدث داخل البلاد والإصرار على التخلي عن الدستور، فرد عليه (يكفي أنك جعلت الدستور غصة في حلوقهم فلن يستطيعوا إنكاره ولا التخلي عنه رغم تجميده والعبث بنصوصه)، وفي لقاء مع النعمان سمعت سنان أبو لحوم يقول له (لقد انقلبنا على أنفسنا)، وكان ذلك بعد أن وضع الحمدي نهاية لكل روابط الشيخ سنان السياسية داخل اليمن، ولم يبقي له سوى الذكريات عن فترته الذهبية محافظاً للحديدة والرجل الأقرب نفوذا وتأثيرا عند الرئيس الإرياني حتى قرر الانقلاب عليه.
 
من الصعب وصف ما حدث صبيحة 13 يونيو بغير الانقلاب، فقد تم بالتهديد والحشود القبلية على أبواب العاصمة، وكان من أهم بنود البيان الأول تعليق العمل بالدستور – الغصة وإدخال مفردة الإعلانات الدستورية في المسار المؤسسي، ومن المؤكد أن المشاركين في الحركة / الانقلاب كانوا على قناعة بأن العقد الاجتماعي – الدستور ليس بذي أهمية وما كانوا حريصين عليه قدر رغبتهم وحرصهم على الحكم في اطار التفاهمات القبلية – العسكرية، - المناطقية، وإلا فقد كان بإمكانهم استخدامه وتعديله بسهولة كما يروق لهم، لكنهم فضلوا الانتهاء منه وعدم جعله وثيقة يحتكم اليها الناس لحل نزاعاتهم وخلافاتهم السياسية، فدفعوا جميعا ثمن تلك الحماقة وقصر النظر وجشع الحكم.
 
شهدت البلاد خلال فترة حكم الحمدي استقرارا وحزما غير مسبوقين وارتفعت الآمال بدخول عهد جديد من النمو والازدهار، وانحسر تماما دور زعماء القبائل الشمالية ولم يبق داخل الجيش أي من الشخصيات العسكرية المعروفة، وارتفعت أصوات الشباب الذين ساندوا الإجراءات السابقة التي اتخذها ضد منافسيه في الجيش، ورأى الناس فيه نموذجا للحاكم العادل والنزيه، وإن ظهرت ملامح الحاكم الفرد القوي، وتقلص دور المجلس الذي ترأسه في 13 يونيو 1974 حتى اغتياله في 11 أكتوبر (تشرين أول) 1977، ولم يبق من أعضائه الفاعلين حينها سوى المقدم أحمد الغشمي رئيس الأركان والمقدم عبدالله الحمدي والمقدم عبدالله عبدالعالم، وعدد من صغار الضباط الذي كان ولاؤهم الكامل للرئيس إبراهيم الذي بلغ التأييد لإجراءاته مستويات غير مسبوقة وأصبح الرئيس الأكثر شعبية في التاريخ الحديث لليمن ومرد ذلك – في نظري – إلى نزاهته وبساطته المقرونتين بحزم الحاكم صاحب الرـؤية الوطنية.
 
انتشرت خلال سنوات الحكم الثلاث 1974 – 1977 هيئات التعاون الأهلي للتطوير التي بدأ نشاطها في عدد من القرى اليمنية خلال عهد الرئيس الإرياني (?? هيئة عام ???? وارتفع  عددها الى 146 في 1976)، ثم أصبحت رديفاً للدولة في مجال التنمية الريفية وكان دخلها الرئيسي من تبرعات المغتربين ومن الضرائب المحلية، وأصبحت هي الذراع المحلية لتعزيز شعبية الحمدي بالإضافة الى الجهاز الرقابي الذي استحدثه (اللجنة العليا للتصحيح)، وكان الغرض المعلن منه محاربة الفساد داخل مؤسسات الدولة، إلا أن الهدف الحقيقي كان انشاء جهاز يرتبط به مباشرة لمراقبة نشاطات المسـؤولين ومتابعتهم، وبمرور الوقت صار جهازا يتغول في نفوذه وأهميته، ومن المرجح أنه استلهم تجربة بدايات عبدالناصر الذي شكل جهازا شبيها (هيئة التحرير)، ولربما كان راغبا في الإعداد لتشكيل تنظيم سياسي تكون قاعدته هيئات التطوير وذراعه السياسي لجان التصحيح.
 
خارجياً تمكن الحمدي ببراعة من نسج علاقة قوية متوازنة في بدايات حكمه مع الرياض، كما استطاع تعزيز علاقاته مع الشيخ زايد بن سلطان والسلطان قابوس وحكام الخليج والرئيس السادات واضعاً اليمن في مكانة متميزة إقليميا، ثم استضاف في 22 مارس (آذار) 1977 بمدينة تعز أول قمة للدول المطلة على البحر الأحمر لكن مصر والسعودية تغيبتا عن الحضور، وحضرها رؤساء اليمن الجنوبي والسودان والصومال، ولابد من الربط هنا بين مساعي الحمدي للابتعاد عن التنسيق مع الرياض في القضايا الإقليمية والاستقلال بالقرار اليمني، وبين التوتر الذي شاب علاقته معها في آخر أشهر حكمه، فـاستغله خصومه الداخليين لتصعيد الخلاف بين القيادتين الى حد القطيعة السياسية في آخر زيارة قام بها إلى الرياض قبل مقتله شهر أكتوبر عام 1977، وقد يفسر هذا اندفاعه لتوثيق علاقاته مع (سالمين) والبدء بخطوات متسارعة لإنشاء كيان يمني واحد.
 
لابد من العودة مستقبلا الى الفترة التي سبقت مقتل الحمدي وظروفها وما حدث بعدها.
 
 
نقلا عن إندنبندنت عربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر