في بدايات شهر يونيو من العام 1974 كنت استعد لامتحانات الثانوية العامة بصنعاء حين توجه أخي محمد أحمد النعمان وكان وقتها المستشار السياسي لرئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني، حاملا رسالة الى الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر  يشرح فيها أن الجهات الأمنية اكتشفت مخططا انقلابيا تموله بغداد ضد النظام القائم حينها في صنعاء، لكن الزيارة انقطعت بقيام انقلاب آخر اشترك فيه كبار ضباط الجيش مع كبار شيوخ القبائل، وكانت ذريعتهم العلنية هي (التسيب الإداري والفساد المالي)، وتم لهم الأمر بسهولة ويسر ودون مقاومة في 13 يونيو (حزيران) 1974، وتولى الراحل إبراهيم الحمدي رئاسة ما سمي "مجلس القيادة" الذي ضم في عضويته: أحمد الغشمي ومحمد وعلي ودرهم أبو لحوم ومحسن العيني ويحي المتوكل ومجاهد أبو شوارب وعبدالله عبدالعالم وعلي الضبعي وعبدالله الحمدي شقيق إبراهيم، وعدداً آخر قليلاً من الضباط، ما جعله يبدو انقلابا عسكريا قام به علـى أنفسهم من كانوا يحكمون قولاً وفعلاً، وشارك فيه عدد من أعضاء المجموعة التي كانت تعد للانقلاب الممول من العراق، حسب الوثائق التي مازالت موجودة في أرشيف الوالد رحمه الله.
 
كان المجلس الجمهوري يتكون من القاضي عبدالرحمن الإرياني والأستاذ أحمد محمد النعمان والقاضي عبدالله الحجري، وكان الدكتور حسن مكي رئيسا للحكومة التي خلفت الحكومة المقالة التي ترأسها القاضي الحجري وثيق الصلة بالسعودية التي جاءت به قبلها عضوا للمجلس الجمهوري من موقعه كسفير لدى دولة الكويت وكان شديد القرب من القبائل والمتدينين،  بينما مثل الأستاذ النعمان النموذج الأقرب الى المثقفين والنخبة الليبرالية الداعية الـي دولة مدنية لا يكون للجيش والمشائخ دور أساسي في إدارة الدولة، وهكذا مثل القاضي الإرياني توازنا دقيقا بين النخب الحاكمة والمجتمعية بتوجهاتها الدينية والقبلية وكان شديد الثقة بالشيخ سنان أبو لحوم ولا يتخذ قرارا إلا بمشورته ورضاه.
 
كان اختيار الراحل حسن محمد مكي (من أبناء الحديدة) رئيسا للحكومة مفاجئاً ومزعجاً لكل من يعرف النفوذ الذي كان يتمتع به الشيخ سنان أبو لحوم عبر تأثيره على القاضي الإرياني وكذلك تحكم إخوانه بوحدات عسكرية قوية (الاحتياط العام وسلاح المدرعات) ووجود (ابن عمهم) العقيد درهم قائداً عسكرياً لمحافظة تعز، وكان ذلك ثاني قرار (بعد إقالة الحجري) يتخذه الإرياني بنصيحة مستشاره السياسي محمد النعمان الذي أراد كسر احتكار منطقة بعينها لرئاسة الحكومة دون تشاور مع الشيخ سنان، واتذكر حالة الغضب التي انتابته حينها وبداية الشعور لديه بـأن الرئيس الإرياني لم يعد متمسكا به وأنه صار يميل لما يقدمه له مستشاره السياسي الذي كان حريصا بدوره علـي تقليص دور الجيش وكبار المشائخ عن إدارة الدولة ما جلب عليه سخطهم فدفع حياته ثمن ذلك في 28 يونيو 1974.
 
لم يطل صبر كبار المشائخ وكبار الضباط، وبدأت خيوط الاستعداد للانقلاب الذي أطلق عليه (حركة التصحيح)، وارتفعت نبرة التحدي للقاضي الإرياني وكان في صدارتها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس مجلس الشورى وقتها، الذي قام بحشد القبائل مهددا باقتحام العاصمة إذا لم يقدم الإرياني استقالته. حاول النعمان تهدئة الموقف والتعرف علـى حقيقة ما يجري فقام بزيارة الى مقر إقامة الأحمر في مدينة خمر شمال العاصمة رافقه فيها الشيخ سنان أبو لحوم الذي لعب الدور المحوري والأساسي في الانقلاب، رغم أنه كان ينكر معرفته بتفاصيل ما يدور حتى لا يخسر صداقته مع الإرياني، وفي خمر فوجئ النعمان بالحشود القبلية علـى الطريق وصدمته نبرة التحدي والتعدي التي بلغت حد اتهام الرئيس الإرياني بـأنه (رأس الفتنة) كما وصفه في اللقاء أحد كبار مشائخ القبائل.
 
عاد النعمان الى صنعاء وأبلغ الرئيس بما سمع وشاهد، فما كان من الأخير إلا أن قدم استقالته فوراً بخط يده إلى رئيس مجلس الشوري حسب الدستور ووضع النعمان استقالته في أسفلها، ودعيا المجلس إلي الانعقاد وانتخاب مجلس جمهوري جديد يمارس أعمال رئاسة الدولة، لكن الشيخ الأحمر – ربما بحسن نية وبحسب اتفاق سابق مع قادة الجيش – أحال الأمر إلي العقيد إبراهيم الحمدي باعتباره أكبر الضباط في التراتبية العسكرية المتواجدين في صنعاء (بغياب رئيس الأركان حسين المسوري والقائد العام محمد الإرياني)، وهكذا سلم الأحمر زمام الأمر إلى الجيش، منهيا أول حكم جمهوري مدني في اليمن الشمالي، وأتمنى ألا يكون الأخير.
 
غادر الإرياني والنعمان البلاد، حيث قرر الأول العيش في دمشق وفضل الثاني بيروت مقراً له، وفي 28 يونيو 1974 تم اغتيال محمد النعمان في بيروت علـي يد ملثمين عجزت السلطات اللبنانية عن ملاحقتهم، ولم تبذل الحكومة في صنعاء أي جهد لمتابعة الأمر كـأنما جاء مقتله ليخفف عنها عناء ملاحقته لإسكاته وإبعاده عن المشهد السياسي، فلم يشكل رحيله صدمة لها مع صداقته السابقة بـالكثيرين منهم، لكنه مثل فاجعة لأقرانه من أنصار بناء الدولة المدنية والحوار وسيلة لحل الخلافات وضرورة الابتعاد عن العنف.
 
لم يمر زمن طويل بعد 13 يونيو 1974 حتى بدأ إبراهيم الحمدي التعامل بدهاء الحاكم القوي الذي يعرف حقيقة مراكز القوى في القوات المسلحة بالذات فعمد إلى إقصاء القادة العسكريين من بيت أبو لحوم الواحد تلو الآخر، وإقالة محسن العيني من رئاسة الحكومة بعد أن دفع بيحي المتوكل ومجاهد أبو شوارب إلى ترك مواقعهم في الحكومة ومجلس القيادة، وجاء بقادة جدد يثق بهم ويدينون له بالولاء المطلق، وجاء بعبدالعزيز عبدالغني لتشكيل حكومة جديدة، وتقارب مع حاكم اليمن الجنوبي سالم ربيع علي (سالمين)، وتوثقت علاقته بالرياض لفترة قصيرة قبل أن تتوتر في نهاية حكمه، ومكنه كل ذلك من توسيع قاعدته الشعبية معتمدا علـى قوة شخصيته وصغر سنه وبساطته ونزاهته والأهم أنه كان أول رئيس يمني يشاهده الناس علـى شاشات التلفزيون ما جعلهم يرونه قريبا جداً منهم.
 
تزامنت سيطرة الحمدي الكاملة علـى مؤسسات الحكم مع طفرة مالية في دول الخليج فكانت تحويلات المهاجرين إلى الداخل مصدراً لتعزيز الاحتياط النقدي، كما ساهمت في نشاط اقتصادي وحركة عمران مذهلة والبدء في إنشاء بنية تحتية حديثة، وازدهار مدهش للعمل التعاوني الخيري في القرى اليمنية شمل شق طرقات ريفية وشبكة كهرباء محلية ومستوصفات ومدارس في عموم المناطق التي ينتمي إليها العاملون اليمنيون في الخليج، لكن تعامله القوي الحاسم مع كبار المشائخ وإضعاف مكانتهم المعنوية ومحاصرتهم في قراهم ومدنهم جلب عليه أحقادا كثيرة، كما شكل خلافه المتصاعد مع المملكة العربية السعودية مصدر استقطاب لمعارضيه في الداخل.
 
(للحديث بقية).
 

نقلاً عن إندبندنت عربية

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر