حكم إعدام


بلقيس محمد

جاءني صوتها البارحة مهدجا بالبكاء، كانت تنتحب وهي تعترض على  الظلم الذي لاقاه في حكم الإعدام الذي وُقِّعَ مؤخراً، وسيتم تنفيذه على بعد عشرة أيام بالكثير، كانت تبكي بالنيابة عنه مرارة الثمانية أعوام التي قضاها في السجن، ينتظر أن يرأف به  سجانه، أو يريحه بما يراه ويبت  في قضيته..

في رسالته المباغتة، أخبرها أنه سيعدم خلال أيام، قال لها أيضاً أنه لم يعد يهمه شيء إلا أن يخرج من بين الجدران الأربعة التي تحجب عنه الحياة بكل مافيها، ولا يهمه أن يخرج محمولاً على الأكتاف، وأن يستبدل الزنزانة التي أصبحت جزءاً من عمره؛ بباطن الأرض التي قد تكون أرحم به من كل الذين على ظهرها، لم يعد يهمه إن كانت آخر أنفاس سيستنشقها هي رطوبة الزنزانة رغم صقيع جدرانها في هذا الشتاء، وأن آخر وجه سيراه هو وجه سجانه الذي سلب منه الحياة قبل أعوام كثيرة، هو يرى بأنه  تعب من كل شيء ويرى في الموت راحة، وهي ترى أنه من الظلم  أن تزهق روحه  قبل أن تتحقق العدالة..

تكون المواساة عقيمة في مثل هذه اللحظات، والكلمات باردة مهما اشتد دفؤها، لم أجد عبارات تليق بدموع الإنسانية التي أسمع صداها عبر الهاتف، وأشعر بمرارتها، تمنيت أن يغلب النوم دموعها، ويأخذها الى السكون، واكتفيت بالتفكير بانقلابات الحياة التي عشناها في هذا العقد التي تمر أيامه بتثاقل قرن.

كم التهمت هذه السنين من شباب داخل أسوار السجون أو خارجها، وكم طحنت رحاها من أناس إن لم تصلهم نيران الحرب وخرابها، فقد أنهكهم العيش تحت وطأتها وبين قساوة أيامها،  كيف أن هذه الأعوام جعلتنا نشيخ قبل أواننا، كمية الألم التي قرأناها وسمعناها وشاهدناها، الأحياء التي خلت من شبابها وضحكاتهم ولعبهم، الوجوم الذي رسمته هذه الأعوام على وجوه المارة، كل غارق في تفكيره وهمومه، الشتات الذي حل بنا.

كيف أننا تركنا خلفنا الأهل والوطن وذهبنا إلى مشارق الأرض ومغاربها لنرسم خطوط مستقبل لم يتضح مساره بعد، ورغم الرحيل إلا أننا ما زلنا ممتلئين بذلك الوطن ومرتبطين ببقعته الجغرافية... 

تذكرت حديث صديقتي وهي تصف لي دهشتها وألمها، بأن إحدى جاراتها التي كانت في وضع مادي جيد، أصبحت لا تملك أي شيء، أي شيء حرفياً حتى الشاي! تألمت عندما قالت لي وهي تحاول أن تصف لي فداحة ما وصلت له جارتها من قلة الحيلة: تخيلي أنها لم تشرب الشاي لأكثر من شهرين!  الشاي الذي لم يكن يخلو منه أي بيت يمني بغناه وفقره، الشاي الذي كان يحل محل الحساء الدافئ في وجبات الذين يقعون على خط الفقر، الشاي أصبح حلماً بالنسبة لها لترطب به خبزتها اليابسة هذا إن وجدت الخبز.

أدركت أن سنيننا العجاف هذه قد أكلت كل شيء فينا، أحلامنا، أمانينا، كرامتنا، استحوذت على كل ذرة فينا وأرهقت أعماقنا وأرواحنا حتى نسينا كيف يكون اخضرار السنابل فيها، ومادمنا نعيش في ظل هذه الظروف فحكم الإعدام لم يكن مقصوراً على من تبكيه صديقتي وأن الكل واقع تحته.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر