من لفح الغربة.. 


بلقيس محمد

ليلة أولى غياب .. 

نحب بكل المشاعر المتاحة للحب، نكون علاقات يتأرجح خط سيرها بين خيبة وصدمة ووفاء، إلا أن ثمة أشخاص لا يتأثرون بمجريات الحياة، ويبقون في نفس الخانة التي وضعتهم فيها، حين قررت أن تحتفظ بهم في خانة الأعزاء؛ تبقى كل تفاصيلهم ثابتة غير قابلة للتغير، حتى إن غافلتنا الحياة، وسرقتهم بعيداً عنا، يبقى البعد بعد مسافات، لكن الأرواح متجاورة، والقلوب تسكن بعضها..  
                                                                                                
هذه الليلة بالنسبة لي؛ هي الأصعب منذ ثمانية أعوام مضت، ثمانية أعوام لم أشعر بها بالوحدة كما أنا عليه اليوم، قبل عام غادرتني إحدى صديقاتي، شعرت حينها بالضياع، كنت كطفل أضاع أمه وسط الزحام، ولم أتقبل فكرة غيابها إلى اليوم، إذ أنها كانت هي الوطن بالنسبة لي، الأيام التي قضيتها معها، ضحكتها، إحمرار وجنتيها عندما تخجل، كل تفاصيلها كانت تعيدني إلى الوطن، كنت أرى في ابتسامتها إشراقة أمي، ورأفة أبي، كان بيتها جمهوريتي التي تأويني، حين تضيق بي ليالي الاغتراب، ويرجف في قلبي وتر الحنين، بكل هذه المشاعر ودعتها، وأنا صلبة متماسكة، الشتات الذي عشته من بعدها موجع جداً، ومازال إلى اليوم، لكنني لم أشعر يومها بالوحدة، كنت ممتلئة بالبقية..  
                                                                 
تتالت ليالي الوداع، من بعد ذلك اليوم الديسمبري، وأصبحت ليالي ديسمبر الباردة مرتبطة بالوداع، ويبدو أن القدر كتب لي أن يكون ديسبمر لوداع الأعز والأحب، أنا الآن في طريق العودة الطويل، من حيث أتيت لوداعك يا ابنة القلب، السماء تمطر والبرد قارس جداً في الحافلة التي أستقلها، صدري متخم بالوجع، والراكبين معي استقلوا أحلامهم وغطوا في سبات عميق..

الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، وأنا الوحيدة التي أتوسد وجعا لا طاقة لي به، ولا أعلم منبعه، الأضواء التي تأتي من الخارج تؤنسني تارة، وتختفي تارة، السائق يمشي بسرعة ثابتة، حيث لا اهتزاز في الحافلة لأنام، ليلي اليوم يا صديقتي أطول من سنين الحرب الأربعة،  فيه البرد والألم والوحشة، ماذا عليّ أن أفعل؟ هل أكره ديسمبر الذي يتعمد أن أعيش كل هذا في لياليه!   
                                                                                             
ساعات العودة السبع طويلة بما يكفي، لأعيد كل حدث عشناه، وكل ضحكة ضحكناها معاً، كل الأماني والأحلام التي رسمناها، كل شيء لم يفهمه أحد سوانا، الأحاديث المتناثرة على قارعة الطريق، النظرات المسروقة من المارة، اللعب الذي كان يملأ حينا، الأشجار التي احتمينا بها من أشعة الصيف الحارقة، السعادة التي تبعثينها في أي مكان تمرين به، كل شيء يمر الآن أمامي كأنه يحدث للتو.. 
                                                                                
كل ليالي البعد متعبة ومرهقة، كلها يملؤها الحنين و الأشواق، لكن الليلة الأولى في الغياب يا صديقتي، هي الأصعب والأكثر ألماً، وبالرغم من أنها ساعات فقط التي انفصلنا بها عن بعضنا، إلا أنها الأكثر اشتياقاً، الليلة الأولى كل المشاعر فيها مركزة وصادقة، لذلك هي الأشد إيلاماً على الإطلاق، لأن الأيام لم تنثر غبار الاعتياد على قلوبنا بعد، والقلب لايزال يرقص رقصة الوداع الأخيرة، لذلك ترتجف حجراته الأربع، ومع كل رجفة ينتابنا الحنين.

الليلة الأولى في الغياب؛ هي التي تعيد إليّ الوعي بأني بعيدة عن الأهل والوطن وكذلك الأصدقاء، الأصدقاء الذين جعلتهم وطني وجميع أهلي، الأصدقاء الذين خلقت بهم مجتمعا كالذي كنت أعيشه هناك في أرض الوطن، وحين رحلوا، وجدت نفسي كشجرة وحيدة، في أرض خالية، تعبث بأغصنها رياح الشوق، واهتزازات الحنين.......

بلقيس محمد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر