رسالة إلى معلمة 


بلقيس محمد

حين كبرنا، وجدنا أنفسنا نقرأ ونحب القراءة ، كانت مكتبة أبي عامرة بالكتب، ولم أرَ رجلاً في محيطي يحب القراءة كأبي، كان يحثنا على القراءة باستمرار؛ إلا أن القراءة شغف إن انعدم هذا الشغف لن يفيد الحث عليها، ولن يكون سبباً كافياً لأن تقرأ، من يجد ذاته في كل كتابٍ يقرأه هو فقط من يدمن القراءة، أن تعيش كل قصيدة وكأنك بطلها، وتمر بك أحداث رواية وكأنك أنت راويها، أن تشعر بأن التاريخ يحتضنك بين أوراق كتبه وتمتلئ بالمجد والفخر، أن يكون خيالك عامراً بالمشاهد التي تقرأها، والمعلومات التي تكتسبها والمفردات التي تتراكم في خزنتك اللغوية.

أن تحيا وأنت تقرأ ستجد نفسك تتنفس بالكتابة، أحب الكتابة من صغري، كنت أحصل على علامة كاملة في الإملاء والتعبير دون أدنى جهد، لم أكن أطمح كثيراً بأن أصبح كاتبة في يوم ما ولم أفكر حتى في ذلك، كنت أحب الكتابة فقط، كنت دائمة الإمساك بالقلم مادام أمامي أوراق، كنت أكتب أي شيء يخطر في ذهني، أبيات من قصائد أختي أو عبارات علقت في ذاكرتي وأنا أقرأ.

أحياناً كنت أصف الحالة التي أعيشها، أو أكتب لصديقاتي، لم يكن المهم بالنسبة لي المحتوى بقدر ما كانت تهمني الكتابة فقط، في الصف الثامن أوقفتني معلمة اللغة العربية في درس نحو، كنت شاردة حينها ويبدو أنها انتبهت لذلك، فقررت أن أكون فريسة ذلك الدرس، سألتني وأخطأت الإجابة فشرعت بالتندر، سألتني سؤالاً آخراً وامتنعت عن الإجابة، فضلت الصمت، وضعت قلم السبورة الذي كانت تخطط فيه السبورة بطريقة معقدة وهي تشرح إعراب جملة واتجهت نحو نافذة الفصل حيث تضع حقيبتها، أخرجت من حقيبتها دفتر الدرجات، وأمسكت بالقلم الرصاص الذي أخذته من الطاولة ويبدو أنها وضعت لي صفراً، قالت لي وهي تمسك دفترها ذاك بطريقة من يخاف تسرب المعلومات من أوراقه، ستكون هذه درجة اختبار الشفهي لهذا الشهر، وأضافت ساخرة وهي تعيد الدفتر إلى حقيبتها، لا يهم إن حصلتي على صفر، المهم أن تظلي ممسكة بالقلم كأنك كاتبة عظيمة!

شعرت بالضيق يومها من سخريتها، وتساءلت في نفسي هل أستحق هذا فقط لأني أخطأت؟ ألم نأتي إلى المدرسة لنخطئ ونتعلم!! وكيف سنتعلم إن لم نخطئ! ولفترة كبيرة، كلما سألتني كنت أمتنع عن الإجابة، كنت أكتفي بالصمت، حتى وإن كنت أعلم الجواب.

بدفاتر التعبير الخاصة، كانت صفحاته تمتلئ بالخطوط والدوائر الحمراء من العنوان إلى آخر النص، وإن كنت محظوظة جدا ،ً كانت تضع لي خطاً طويلاً لا تفهم منه هل هو علامة صح أو أنها شطبت كلما كتبت لسوئه وكثرة أخطائه، في بداية الأمر كنت أحزن قليلاً ثم بعد ذلك أصبت باللامبالاة، واكتفيت بالكتابة لنفسي فقط.

في الصف التاسع، وفي أول أسبوع، قالت لنا المعلمة: ستكون حصة كل خميس للتعبير، وستأخذ الدفاتر معها حتى تقرأها بتركيز، كتبت أول تعبير دون أن أنتظر أي تعليق منها كما كنت انتظره قبل الصف الثامن، كانت معلمة الثامن كفيلة بقتل كل شيء اعتدت عليه، بلا مبالاة كتبت، وبلا مبالاة انتظرت دفتري يوم السبت، والطالبة التي تجلس في الأمام توزع علينا دفاترنا، انتهت الدفاتر من يدها لكن دفتري لم يصل، بعد أن شكرت المعلمة الطالبات على حسن تعبيرهن، وأعطت كماً من الملاحظات، أخرجت دفتري من حقيبتها وقرأت الاسم، ارتعبت قليلا،ً وكأني أسمع اسمي لأول مرة لكني قطعاً وقفت، ابتسمتْ. وقالت لي انقطعت الكهرباء وأنا أقرأ تعبيرك، لكني لم استطع المقاومة حتى تعود الكهرباء، أو الانتظار الى اليوم التالي، قمت واشعلت شمعة وأكلمت القراءة.  ثم سألتني: هل أنت فعلاً من كتب هذا؟! هززت لها رأسي بأن نعم.

لم استطع أن أخمن ما الذي سيكون بعد السؤال، لكني كنت أشعر بالارتياح، بعد أن أجبتها، خاطبت الصف كاملاً وقالت: هذا أفضل تعبير قرأته منذ أن بدأت التدريس، اعطتني دفتري وهي تقول لي أحسنت، أتمنى أن أقرأ لك في المستقبل.

أخذت دفتري دون أن افتحه، وحين فتحته في المنزل، وجدت صفحة كاملة مكتوبة بالأحمر، ليس اللون جديداً عليّ، الجديد في الأمر أنها كتبت لي كلاماً كثيراً وكبيراً بالنسبة لي بالوقت ذاته، كتبت لي أنها عاشت انفعالات كل ما قرأت من حزن ومرح، وكأنها كانت تشاهد مسرحية أمامها، حين تدقق في السطور تجد شيئاً خفيفاً من قلمها الأحمر تحت كل سطر، وكأنه دليل على أنها لم تترك حرفاً إلا وقرأته، بعد أن قتلت المعلمة الأولى كل ما أملكه من شغف نحو الكتابة؛ أعادت لي المعلمة الأخرى هذا الشغف، وأعطتني إلى جواره جناحين أحلق بهما إلى الآن، مع أني لا أعد نفسي كاتبة، ولا أطمح للشهرة كما وصفتني ذات يوم تلك المعلمة؛ إلا أن مجرد الشعور بالتقدير هو دافع لأن تصنع شخصاً عظيماً من لاشيء، والسخرية أنّى كانت، يمكن لها أن تَهد شخصاً يرى نفسه عظيماً بما يملك.

منذ الصف الثامن، ومن أعوامٍ خلت أكتب لنفسي فقط، منذ عامٍ أو يزيد قررت أن أنشر شيئاً مما أكتب، رغم أنه ليس جزءاً من شغفي ولم أفعل، اليوم استيقظت وفي ذهني كل هذه الذكريات، بعض الذكريات لا نستطيع التخلص منها، نكون مثخنين بها؛ لذلك قررت أن أكتب وأن أهديها كل ما أكتب. 

الإهداء ...

إلى معلمة اللغة العربية في الصف الثامن  أ/ عواطف

هأنذا أكتب بذات القلم الذي سخرتِ منه.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر