كما يَحْدُث أن تكون الوطنية هي الموئل الأخير لأعداء الوطن، يَحْدُث أن يكون الدين هو الملجأ الأخير لـ «أعداء الله»، يحدث ذلك عندما يُختصر الوطن في نيشان الزعيم، ويُختصر الدين في عمامة الفقيه.

هناك نموذج صارخ للفرعون الذي واجه ثورة موسى بتبريرات دينية ووطنية، من مثل: «إني أخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد». إنها حيلة الحاكم/المستبد عندما يخشى يقظة الشعب باللجوء للدين «دينكم»، والوطن «الأرض»، وهنا يبدو الأثر الديني مقدماً على الأثر الوطني في تخدير وعي الشعب، وتجيير إرادته.
 
الدين طاقة هائلة، وكما تنشطر النواة عن طاقة عظمى، يمكن أن تكون بناءة في الأغراض السلمية، ويمكن أن تكون مدمرة في الأغراض العسكرية، فكذلك الدين: يمكن أن يحرك الإنسان نحو مديات مذهلة من الكشف المعرفي، والتجلي الروحي، والإشراق الوجداني، ويمكن أن يكون طاقة تفجيرية تكمن في مجموعة من الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، والدعايات النازية، والدعاوى العنصرية، أو أن يُحشر تحت عمامة الحاخام يتسحاق يوسف الذي شبه السود بالقرود، أو أن يخرج به هتلر مدشناً الحرب العالمية الثانية.
 
يمكن للدين أن يكون منظومة قيمية من العطاء والتسامح والصبر، ويمكن أن يكون جبة تُحشر فيها كل معاني الفساد والجشع للسلطة والثروة، تُصَدَّر للناس على أساس أنها الدين الصحيح. يمكن أن يكون الدين لقمة في بطن جائع، ويمكن أن يكنز في خزنة تاجر جشع بلحية طويلة. يمكن أن يكون صوتاً للشعب، ويمكن أن يكون سوطاً في يد حاكم مستبد. يمكن للدين أن ينبعث من حريق كتب ابن رشد ومن مؤلفات جاليليو، ويمكن أن يكون نار الفقيه التي التهمت الكتب، وحكم الكاهن الذي حبس جاليليو حتى الموت في بيته.
 
كل ذلك يعتمد على زاوية النظر، وطريقة التناول، وميكانيزمات التأويل، ومستويات التعليم، ودرجات السلم الحضاري للناس. ومكمن التحدي هنا هو: كيف يمكن أن نميز الشعرة الدقيقة الفاصلة بين الدين الصحيح والتدين المزيف، بين دين القيمة ودين المنفعة، دين الشعب التواق للحرية والعدالة، ودين السلطان التواق للظلم والاستبداد؟
 
كيف يمكن أن يتم توظيف القوة الروحية للدين توظيفاً إيجابياً؟ كيف يمكن أن نحول الدين إلى مدرسة ترجمة لمفتتح القرآن «إقرأ»؟ كيف نجعل من الدين مستشفى ترجمة لـ»تداووا عباد الله»؟ كيف نعبد الطريق، ونبني محطة الكهرباء والمياه، مستلهمين حساسية الضمير، الكامنة في تلك المنطقة البعيدة في الخريطة الداخلية للروح؟
هناك من يرى الدين مرحلة تاريخية في تطور الحياة البشرية، قبل أن يأخذ الإنسان بزمام مصيره من القوى الغيبية، ومن آلهة الجبال البعيدة، وقبل أن يزيح الإنسان الحجاب بين عقله والحقائق العلمية، التي ساعدته على إعطاء تفسير «منطقي» لمعنى الوجود، أو قبل أن يتوج الإنسان نفسه إلهاً، غزا الفضاء وفجّر النواة. لكن رغم تلك المقولة، لا يزال الدين يحتل مساحة واسعة من خريطة الروح، ولا يزال المتدينون يذهبون إلى المعابد بمختلف أنواعها، بما يعني أن دور الدين لا يمكن- ولا يصح- التخلص منه.
 
كل ما هو مطلوب البحث عن الدين كمصلحة عامة، لا منفعة شخصية، كتجسيد للعلاقة بين الإنسان والإله، بين الأرض والسماء، لاستجلاء معاني السمو الروحي والأخلاقي للإنسان في أبعاده السماوية، ولتقدير الطبائع الغرائزية للناس في أبعادهم الطينية. ومن هنا يصبح الدين أقرب ما يكون للأرض بمعاناتها وأشواقها، بترابها ومائها، بأغنيائها وفقرائها، بعمالها وفلاحيها، وأغاني رعاتها، أو لنقل أقرب إلى السماء في بعدها المثالي، وللأرض في أبعادها الواقعية. وهذا يعني إسقاط المفاهيم العليا على تراب الواقع، والارتقاء بتراب الأرض لمستوى شفافية السماء، كهدف أسمى يتم من خلاله مزج أمزان السماء بخصوبة الأرض، لإحياء الحرث والنسل، حسب رؤية القرآن.
 
هذه هي الجوانب المشرقة التي يمكن أن نبحث عنها وعن غيرها في الدين، أما أن نلبس غرائزنا الشخصية لباساً دينياً، أن نسقط على الدين سوء تصرفاتنا، أن نقدم للعالم ثقافاتنا، على أنها هي الدين، أن نختصر الدين في الطقوس، فأعتقد أن ذلك سلوك تدميري ليس للدين وحده، ولكن للشخصية المتدينة التي بسبب من هذا المزج بين التقاليد والدين، أصيبت بما يشبه الفصام الحائر بين الواقع والمُتَخَيَّل، والتمزق بين الماضي والحاضر، والضياع بين دهاليز السياسة وتعاليم الدين.
 
 يمكن بالنظرة الإيجابية للدين، أن نعيد إنتاج تفسيرنا نحن له، التفسير الذي لا يحشره في جبة الفقيه، ولا يخبئه في عطَفات الحزام الناسف، ولا يقصر فتاواه على خريطة جسد المرأة، يمكن لهذه النظرة أن تخلصنا من إشكالاتنا التاريخية التي لا تعد أصلاً في الدين، يمكن أن تعيد لنا البوصلة بالتفريق بين الدين والتاريخ، بين الوحي والتراث، بحيث نعيد تنميط الدين في تصنيفاته الروحية، ونعيد فهم التاريخ في كونه سجلاً بشرياً.
 
إن واحدة من أهم إشكالات العقل الديني أنه ثابت لا يتحول، ومرجع ذلك إلى الخلط بين ثبات وديمومة وواحدية الإله من جهة، وتحول وفناء وتعددية الإنسان من جهة أخرى، بحيث يتصور ذلك العقل أن أي محاولة للتغيير هي محاولة لخروج الإنسان على تعاليم الإله، وتمرد «غير الثابت» على «الثابت»، بالمفهوم الفلسفي، أو «غير الدائم» على «الدائم» في اللغة الدينية. وهذا ما راكم حالة من الثبات والديمومة في اللاوعي واللاشعور، في أعماق الكثير من المتدينين.
 
الدين، إذن وفي المحصلة هو زاوية النظر إليه، وعلينا أن نختار الزاوية المناسبة التي ننظر من خلالها للدين والحياة بشكل عام. أما أن نظل نركز على أن ديناً من الأديان يحمل بذور الموت والإرهاب، وديناً آخر يحمل عناصر الحب والحياة، فهذا ضرب من الخداع الذاتي، ذلك أن الأديان في أصلها واحد، وحجاب فاطمة بنت محمد، هو ذاته الذي لفَّتْ به السيدة مريم بنت عمران شعرها، وهو الذي كان على رأس راحيل بنت لايان، ولحية محمد هي ذاتها لحية المسيح وموسى، بدون فرق.
 
لا يصح، التعامل بانتقائية مع النصوص المقدسة للأديان المختلفة، لأن النصوص التي تجيز استعمال العنف، على سبيل المثال، موجودة بشكل عام في كل الأديان، والفارق الوحيد أن هناك متدينين لا يزالون يحتفظون بالترجمة الحرفية للنصوص، فيما حاول متدينون آخرون البحث عن ترجمة تأويلية رمزية، وفهم تلك النصوص في سياقاتها التاريخية، فيما غادر آخرون نطاق تلك النصوص وتركوها إجمالاً إلى فضاءات أخرى.
 
نعود للقول، إن زاوية النظر السلبية للدين، هي التي حولت الرهبان البوذيين «المسالمين» إلى وحوش بشرية مارست وحرضت وغضت الطرف عن جرائم قتل وحرق وتطهير عرقي وديني للمسلمين، لم يُشهد له مثيل في بورما، تلك الزاوية هي التي خرج منها مسيحيون قوميون غادروا ماركسيتهم إلى جذورهم الأرثوذوكسية، ومارسوا الجرائم ذاتها في البوسنة وكوسوفو في يوغسلافيا السابقة، وهي الرؤية التي أفتى وفقاً لها كهنة هنود بحظر دخول النساء إلى أحد المعابد، خوفاً من أن يثرن الغريزة الجنسية لـ «الإله أيابان»، وبالتالي يفقد عزوبيته، الأمر الذي استمر لقرون طويلة، قبل أن تبطله محكمة مدنية هندية قبل أيام، وهو المنطق ذاته الذي يفتي وفقاً له حاخامات يهود بأن المرأة «في فترة الدورة الشهرية» تعد نجسة لا يجوز الاقتراب منها! هذه الزاوية الضيقة من النظر للدين هي التي جعلت الحاخام الإسرائيلي يتسحاق يوسف يفتي بطرد الفلسطينيين «الأغيار» من أرضهم، إلا إذا وافقوا على البقاء «خدماً لـ»شعب الله المختار»، وهي الزاوية ذاتها التي أفتى بموجبها بعض أئمة اليمن من الهادوية، ببطلان زواج الهاشمية من غير الهاشمي، لأن «ذلك اعتداء على عرض رسول الله».
 
وهي الزاوية التي غزا منها جورج بوش الابن العراق في «حربه الصليبية»، وهو الفهم الذي خرج منه هتلر معلناً الحرب باسم المسيح، ومردداً: «في هذا السّاعة أطلب من الله أن يبارك عملنا ويمنحنا الشّجاعة للقيام بما هو صائب»، وهي الزاوية التي خرجت منها منظمة «داعش» وأخواتها في بلاد المسلمين. وفي الإجمال ينبغي الاقتراب بالدين من «صوت الشعب»، وتحريره من «سوط الحاكم»، ليتحقق معنى النص المقدس: «ويكون الدين لله»، بعيداً عن الأهواء والأغراض والتسييس.
 

*القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر