الذاكرة المترهلة والتدوين


الهام الحدابي

أصبح التدوين في زمن التكنولوجيا أقرب للترف منه للشيء المهم، لكن ثمة تدوين لا بد منه، وهو التدوين الشخصي الذي اتخذ مسميات عدة وفقاً لمراحل زمنية ومجالات شتى، أدب الرحلات، أو السيرة الذاتية، أو التدوين الشخصي، لا يهم ما هو المسمى الذي يحمل الفكرة، المهم هو الفكرة نفسها.

يأخذ التدوين أهميته في اللحظة الراهنة بسبب تشظي الذاكرة الجمعية وتشوهها، فإعلام الحروب لا يبقي للهوية مصدرا تتعرف فيه على الحقيقة، لأن الحقيقة تشبه التاريخ، ودائماً ما يفرضها الأقوى أو المنتصر حتى وإن خالفت النتائج الواقعية، ويأخذ التشظي مكانه بسبب تفتت الروابط الاجتماعية في عصر الحروب، ليس ذلك وحسب، بل يصبح التشظي هوية للتفكير في زمن تزاحم الأضداد والأحداث وأهوالها، فالحرب ليست لعبة الكبار وحسب، هي ذاكرة المساكين والمتعبين، والجوعي والمثخنين، والأرامل والعجائز والمغتربين، والأطفال والشوارع المنكوبة، الحرب هي كل التفاصيل التي يغفل عنها إعلام الحروب، ويلتهمها الزمن بالنسيان، وتبقى لبعض الوقت في ذواكر أصحابها، لكنها حتماً بمرور الوقت ستختفي وستصبح أثراً بعد عين، إلا إذا تم تداركها بالتدوين الذي يشبه الوشم في الجسد، فمهما اعترته السنون يبقى الوشم خالداً يحمل تضاريسه التي لا تفنى.

ما دفعني لكتابة هذه التدوينات هو خوفي من الذاكرة المترهلة، فاليمن شهد أربعة حروب خلال نصف قرن ونيف، ليس السبب واضحاً، لكن الذاكرة المترهلة قد تكون أحد الأسباب المنطقية القادرة على تفسير تكرر الأحداث بتفاصيلها، فبعد أن ظن ثوار 1962 في اليمن أنهم قضوا على رأس الإمامة، اتضح لهم في نهاية المطاف أن نجاحهم لك يكن سوى كبوة فرس بالنسبة للإمامة، وبين إمامة الأمس وإمامة اليوم بون خطير لم يفقهه لا ثوار الأمس ولا ثوار اليوم.

إمامة اليوم تحكم خيوطها من قلب الأمم المتحدة، ومن جوف صنعاء، ومن اصابع الحديدة وجبال إب، إنها تعلم كيف تصيد وكيف تخترق صفوف الأفكار لتقلبها إلى صفها، ومن أجل تطبيق فكرة رقي الجنس لا بأس باستخدام كل الحيل المتاحة، وهاهو إبليس ذاته يستخدم الحجة والمنطق ليغوي آدم ليتخلى عن بشريته باسم الخلود، وهاهم أئمة اليوم يقنعون الناس بأن الله اصطفاهم دون غيرهم ليقدموا رقابهم باعتبار أنفسهم (زنابيل) للـ(القناديل).

عبر شاشات الإعلام لا تتضح ملامح الشهداء الخضر للمسيرة القرآنية، لكن العدد الكبير كفيل بخلق تساؤل جوهري حول : لماذا يموت هؤلاء؟!

وعندما تتجول في أزقة القاع وشوارع صنعاء ترى ملامح الكثير من الأطفال الذين أصبحوا رجالاً بمجرد أن حملوا السلاح، إذا تأملت ألقابهم لن تجد قنديلاً واحداً، فكل القناديل تمسك خيوطها من خارج اللعبة، ليبقى أبناء الزنابيل هم لظى ووقود الحرب، وإذا سألت أحدهم عن سبب تضحيته بابنه في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، يردد لك الشعارات الخضراء المطلية في شوارع صنعاء وذمار، ثم لا تجد في حديثه كله أي إجابة مقنعة.

يتقاتل اليمنيون اليوم في حرب لم تعد ملامحها واضحة، حتى الموت المجاني الذي توزعه الجماعات المسلحة في الحارات الشعبية أصبح بلا معنى، وفقد القدر قدرته على خلق أي تاثير أو رهبة للموت، أصبح الموت مجرد عنوان في موقع أو صحيفة، وأصبح الجوع مصيراً يأكل اليمنيين ببطء، أما عن مشاهد الذل والنصب فحدث ولا حرج، إذ تنتشر في خارطة اليمن نقاط حدودية وهمية، نقاط تبحث عن (الكوشان) المبلغ المالي الذي تأخذ نقاط التفتيش على المسافرين، ونقاط تبحث عن (فدية)، ونقاط تبحث عن (عودي قات)، وبين أتون هذه المعمعة يفقد المرء بوصلة الحياة وتصبح مسألة انتظار الموت أمراً لا بد منه.

في نهاية 2013 غادرت صنعاء لمواصلة تعليمي وزرتها في منتصف 2018م ، عندما غادرتها كانت صنعاء تتشح بالتوجس والقلق، وكانت ابتسامة الرئيس الانتقالي تملأ أزقتها بابتسامته القلقة، لم يكن هناك أي شيء يدعوا للتفاؤل رغم أن مخرجات الحوار الوطني كانت قد أعدت بالكامل، ولم يكن حال بقية المدن بأحسن من صنعاء العاصمة، لكن صنعاء في تاريخها تشبه الأرملة عندما تدرك أن ثمة خطر يتهدد صغارها، ورغم قلقها وتوجسها دائماً ما تترك الباب موارباً حتى يقتحمه اللصوص، لذا عندما فتحت أسوارها لميليشيات الحوثي لم يكن الأمر مستغرباً بقدر ما كان مستهجناً بسبب تحالف (صالح) مع عدو الأمس (حركة الحوثي)، لكن الحرب خدعة!

كانت شاشات الأخبار تنقل كل يوم تفاصيل شتى عن الإنقلاب، وعن حكاية فرار الرئيس الانتقالي بملابس نساء إلى مسقط رأسه في الجنوب، وعن دور الحياد (الخائن) الذي لعبه الجيش، الذي لم يكن في حقيقة الأمر سوى قبائل الرئيس السابق وابنه وأصدقائهم.

تركت صنعاء بابها موارباً وظنت أن (مضرب الذباب) يكفي لإخافة اللصوص المسلحين، لم تكن تدرك أن ترك الباب موارباً لا يعني تسلل اللصوص وحسب، بل يعني دمار المنزل بمن فيه، لذا كان نداء التحالف للتدخل من أجل وقف (التهديد الإيراني) أو (المد الصفوي) وارداً، وحدث ما لم يكن في الحسبان بسبب الذاكرة المترهلة، نسي اليمنيون أن أئمة اليوم أخذو دعمهم من الأنظمة الملكية في المنطقة، وبقيت مصر الجمهورية هي الداعم الوحيد للثوار.

هاهو التاريخ يعيد نفسه مع شقلبة الأدوار، (مصر السيسي) تقف ضد الثوار، والأنظمة الأخرى تقف مع الثوار، وبسبب غياب البوصلة من ذهنية كل الأطراف أصبحت الحرب في اليمن اشبه بحرب مرتزقة يدفع ثمنها الكثير من الأبرياء الذين لا يزالون يحبون علي صالح لأنه كان يظهر كثير في التلفزيون، ولأنه مثل والدهم، ولأن الحرب رفعت سعر الروتي، ولأن أجرة المواصلات أصبحت بمئة!

هكذا هم البسطاء يفكرون بالقروش ولا عتب عليهم، فالتعليم المسروق الذي لقنوه في المدارس يحتم عليهم العيش في خانة الزنابيل، العتب على أولئك الذين يقرأون كل السطور، ويعلمون من أين يؤكل الكتف لكن الخوف والذل الذي يسكن أحداقهم هو من يدفعهم للركوع أمام العدو قبل الصديق.

من اسطنبول إلى صنعاء هي مذكرات سفري إلى اليمن في صيف 2018، أكتبها لتكون أشبه بذاكرة حية يعيشها اليمنيون ولو بعد زمن، ليعلموا مقدار الذل والهوان الذي وصل إليه اليمنيون في ظل التحالف، وليدركوا أن قياداتهم بمختلف مسمياتها ومشاربها ليست سوى وجه لعملة فاسدة إلا من رحم، رغم أني أنهيت مرحلة الماجستير في تخصص العلوم السياسية والعلاقات الدولية التي تحتم علي الكتابة بحيادية تامة، أفضل أن تكون كتاباتي الإعلامية و(تدويناتي) بعيدة عن تلك الحيادية القاتلة التي لا يفقهها الشعب الجاهل والمثقف المسكين.

في هذه التدوينات سأحرص على كتابة التفاصيل التي يجب أن تدون ليدرك العالم مدى بشاعة الجريمة التي تدور في اليمن باسم الشرعية واسم الحوثي واسم التحالف واسم الأمم المتحدة، ربما أن كلامي لن يحقق صداه في هذه اللحظة الزمنية البائسة لكني أدرك أن التدوين هو علاج الذاكرة المترهلة التي تعتبر داء اليمنيين قاطبة، إذ لا يمكننا كيمنيين أن نوقف الحرب، فضلاً عن أن نخرج من دائرة الفوضى طالما بقينا في العباءة الفاسدة لعلي صالح، وطالما اقتنعنا بدور المتفرج على مأدبة اللئام دون أن نحرك ساكناً.

مشاركة الصفحة:

اقراء أيضاً

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر