تتسع الفجوة بين النخب ومجتمعاتها في البلدان الديمقراطية الصناعية على نحو لم يعد معه ممكناً إخفاء ظاهرة التدهور الشديد في العلاقة بينهما.

في نظر المجتمع لم تعد النخب قادرة على التعبير عن نبضها كما كانت في الماضي، كما أنها قد خسرت القدرة على قراءة حاجاتها المتجددة إلى الأمن بمفهومه الشامل والاستقرار الذي يولده الشعور بالاطمئنان الى تنامي معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع فرص العمل وغير ذلك من عناصر الأمن الاجتماعي الشامل.

 

وفي حين كانت تشكل هذه النخب لسان حال مجتمعاتها وصوتها القوي في مواجهة آلية الدولة الضخمة فقد أصبحت في هذا الوقت أشبه بحاجز الصوت بين المجتمع والدولة ، فكل ما يصدر عنها لا يعدو أن يكون غير ضجيج ليس له أي صلة بهموم المجتمع ومطالبه، مؤخرا اختبرت هذه العلاقة في بلدين ديمقراطيين هما بريطانيا وأمريكا.

 

في بريطانيا فاجأ المجتمع كل النخب بالتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوربي brexit بما في ذلك النخب التي كانت تدعوا إلى الخروج والتي أثبتت فيما بعد انها لم تهيء لمتطلبات الخروج القانونية والإدارية وبدت في حيرة شديدة بشان الخطوات العملية لتنفيذ ذلك ، وهو ما يفسر حقيقة انً هذه النخب لم تكن تتوقع أن يصوت البريطانيون لصالح الخروج وانهم إنما رفعوا سقف الخروج للضغط على الاتحاد الأوربي لتقديم تنازلات فيما يخص موضوع الهجرة، لكن الشعب البريطاني كان له حساب آخر مختلف عن حساب النخب فصوت بالأغلبية للخروج وسجلت هذه المحطة أهم مؤشر لاتساع الفجوة بين النخب والمجتمع وهي الفجوة المشحونة بعدم ثقة المجتمعات في نخبها .

 

أما المحطة الثانية فهي انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة حيث أكدت كل الاستطلاعات التي أجرتها مراكز متخصصة على درجة عالية من الدقة على فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون ، وكانت كل المؤشرات النخبوية تضع هيلاري في المقدمة بينما تؤكد أن حظ ترمب المرشح الجمهوري في الوصول الى الرئاسة يقترب من الصفر لدرجة أن نخبا جمهورية تبرأت من ترمب بصورة غير مسبوقة.

اعتمدت كلينتون على تقديرات النخب وبدا لها الفوز على مرمى حجر، أما ترمب فقد اخترق جدار هذه النخب إلى المجتمع ، خاطبهم بلغتهم وحاجاتهم وهمومهم التي تكونت على نحو غاضب مما اعتبرته قطاعات شعبية واسعة على انه سبب في تراجع السطوة الأميركية على العالم وان أمريكا لا يمكن ان تبقى قوة مهيمنة إلا بأن يدفع العالم لأمريكا مقابل حمايته.

 

أمريكا لا يراها ترمب غير شرطي يحمي العالم وعلى هذا الشرطي ان لا يقدم خدماته مجاناً، لكنه لم يقل يحميه مماذا أو ممن ؟؟ اعتقدت قطاعات شعبية واسعة في المجتمع الأمريكي انه بهذا الخطاب يستعيد امريكا التي تجعل كل أمريكي سيدا ، لكن الضجيج الذي أثارته النخب حول ترمب جعلت ترمب نفسه يشعر بالهزيمة مبكرا فعبر عن ذلك بخطابات هاجم فيها الجميع وقدح منافسته بألفاظ دللت على انه يخوض معركة انتقام شخصية ليس إلا .. لكن الشعب الأمريكي قال كلمته بعيدا عن ضجيج النخب وتفاؤل هيلاري ويأس ترمب . وسجلت هذه المحطة حالة اخرى ذات أهمية كبيرة من ظاهرة اتساع الفجوة بين النخب والمجتمعات.

 

تتحرك المجتمعات في الوقت الراهن بغريزة مفعمة بالرغبة في التحرر من سيطرة النخب وفسادها ، وتتشكل خياراتها كرد فعل للفساد والمساومة والتردد التي غربت فيها نخبها ، وليس من المؤكد ان هذه الخيارات ستكون سليمة لكنها بالضرورة انها اختيارات شعبية .. ولأنها كذلك فان المجتمعات التي ولدتها ستكون قادرة على توليد الضغوط القوية لتصحيحها وتحمل نتائجها.

 

إذا كان هذا هو الوضع في المجتمعات المتقدمة حيث ضاقت المجتمعات بنخبها فتجاوزتها في أهم المحطات لتقرر مستقبلها بخياراتها المباشرة فكيف هي علاقة النخب بمجتمعاتها في بلداننا المتخلفة ؟؟ حدث ولا حرج ، ومع ذلك يبقى السؤال كيف ومتى تستطيع هذه المجتمعات أن تصنع خياراتها وتحميها؟

 

 

*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر