إيران والحروب الطائفية


حسن العديني


الأصل أن رجل المخابرات يكتم ولا يفصح، فإذا تحدث مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية عن علاقة صفرية مع إيران (كذلك قال جون برينان للعربية منذ أسبوعين)، فذلك يقتضي قراءة أخرى متأنية وفاحصة.

في مجمل الصورة ليس في العلاقات الدولية حالة معقدة مثل العلاقات الأمريكية - الإيرانية، لكنها ليست ملغزة. ظاهر الأمور أنها علاقة عداء مطلق، وتضارب في المصالح عميق. ووراء الظاهر يوجد انسجام وتوافق حيال أغلب المواضيع، وأشد القضايا حساسية من الاشتراك في خلق المشكلات إلى التنسيق في إدارتها.

وإذا كانت الوثائق الأمريكية التي رفعت عنها السرية مؤخراً قد كشفت اتصالات للخميني بالإدارة الأمريكية عشية نجاح ثورته، فذلك لا يعني أن واشنطن شاركت في إطاحة الشاه، وإنما بينت أنها تواطأت بالصمت، لأن دور الشرطي الذي كان يمارسه لم يعد مهماً، وبات من المقبول أن تؤدي إيران وظيفة أخرى، وحتى من دون أن يشعر حكامها الجدد بأنهم يخدمون السياسية الأمريكية في المنطقة. لقد تهادى اندفاع حركة القومية العربية، ولم يعد خطراً يهدد أمن «إسرائيل»، وانسحب الاتحاد السوفييتي من مصر ليخسر بعدها مواقع كثيرة في إفريقيا، ثم إن قدمه بدأت تنزلق إلى أفغانستان ما يوفر فرصة ثمينة لإغراقه في مستنقعها. وذلك يوجب استخدام أدوات مختلفة تسهل محاصرته، وإصابته في مقتل. إن طبيعة المواجهة في السابق اقتضت أن يؤدي واجبها رجل دولة مهاب يعرف التقاليد والمواريث. وأما المرحلة المقبلة فقد ينفع فيها زعيم عصابة مشاغب، الأول استنفد طاقته، والثاني جاء يعرض نفسه.

ولقد بدا التعصب لفارس القديمة جامعاً بينهما، بفارق أن الأول مغرم بتجلي الشموخ والمجد في الأباطرة الساسانيين، قادر على استحضارها في نفسه. والثاني مسكون بخبرة الحركات السرية في الإسلام. ولم يكن بعيداً عن أذهان صناع القرار في واشنطن أن آثار المشاغبات ستصل إليهم وتطال بلدانهم ومواطنيهم، ولكن التكلفة مقبولة بالنظر إلى مصالح ستتحقق ومكاسب سوف تجنى.

كان إيقاظ الفتن وإشعال الحروب الطائفية كفيل بأن يأخذ المنطقة من متناول الأيدي الأمريكية ليضعها تحت أقدامها، وفي الوقت نفسه فإن انبعاث الإسلام المتطرف كفيل بتعبئة المجتمع الأمريكي للنجاة من خطر محقق.

ومع أن القومية والوطنية مثلتا إطاراً جامعاً للمنتمين إلى الأديان والمذاهب والطوائف، فإن بعض الشرر أخذ يتطاير ثم تداعت الأشياء حتى وصلت إلى حرب فتاكة. وفيها لم تسمح الولايات المتحدة للعراق بأن يحقق نصراً حاسماً. فقد كسرت الحظر المفروض على توريد السلاح لإيران كي تعيد تعديل الموازين بالصفقة المعروفة بإيران- كونترا، وقد قيل بعد انكشافها أن واشنطن سعت لإطلاق أمريكيين مختطفين في لبنان، ولم يكن ذلك صحيحاً فإن أمر هؤلاء لا يستدعي تغيير استراتيجية دولة عظمى في منطقه حيوية. ولقد استلزم إخفاء الصفقة أن يذهب ثمنها إلى منظمة كونترا التي تحارب حكومة الجبهة الساندينية اليسارية في نيكاراغوا، وأن يتم شحن السلاح من المخازن «الإسرائيلية»، على أن يجري تعويض الدولة العبرية. من ناحيته لم يحاول العراق أن يخفف عن نفسه أوزار تلك الحرب، فقد خرج منها إلى مغامرة احتلال الكويت ليتحول إلى هدف لحرب أمريكية - إيرانية طويلة لم يزل في مرمى نيرانها. وفي الغزو الأمريكي 2003 استكمل تدمير البنى الأساسية في العراق ونهبت أمواله وثرواته الفكرية والفنية، وجرى تسليمه مقاسمة بين إيران وتنظيم القاعدة. لقد أفسح الأمريكيون لإيران طريق النفوذ السياسي وتركوا للقاعدة السلاح والعتاد الذي أنشأت به ما يسمى «الدولة الإسلامية». ولم تطلق الولايات المتحدة يد إيران في العراق وحدها، وإنما تغاضت عن دور نشط لها على الجانب الغربي في باكستان وأفغانستان.

مع هذا يجب أن تسلم أن حرباً ساخنة قائمة بالفعل بين إيران والولايات المتحدة، ولكن ساحتها هي المنطقة العربية، وبينما توظف إيران المذهبية الدينيه لتوسيع نفوذها. ولا تغرب الشبهات فالإخوان ذهبوا للقتال في أفغانستان متحالفين مع الأمريكيين عملاً بمعتقد عندهم أن أهل الكتاب أقرب إليهم من الكفار، وكانوا في الوقت نفسه يصدرون الفتاوى باستباحة أموال ودماء النصارى المصريين، وأخذ السائرون على دربهم يقتلون المسيحيين وينهبون متاجرهم.

وكذلك فقد ساهمت إيران في تطوير مفهوم الجهاد عند الإسلاميين من حرب ضد الكفار إلى حرب بين المذاهب الإسلامية، ثم إلى حروب داخل كل طائفة. وفي النهاية فإن سياستها إزاء العالم العربي لا تتصادم مع السياسه الأمريكية أو «الإسرائيلية».

- المصدر: صحيفة الخليج الإماراتية.

- تاريخ نشر المقال: 19 يونيو 2016

مشاركة الصفحة:

اقراء أيضاً

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر