يقف أكثر من مليون موظف يمني مذهولين أمام حقيقة أنهم لا يستطيعون الحصول على مرتباتهم الشهرية، منذ أكثر من شهرين، على غير عادتهم مع الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، ولكنهم مع ذلك كانوا يجدون فرصة للبقاء بالحد الأدنى من سبل العيش، وقد حانت اللحظة التي شعر فيها الجميع بأن الانقلاب وما جر إليه من حرب وفوضى عارمة، لم يكن نزهة وأن ما قام به الانقلابيون كان كارثة حقيقية ويضع اليمن على مشارف مجاعة وشيكة.

 

من بين أكثر من اثني عشر مليار دولار هي الميزانية السنوية للبلاد، لم يترك الانقلابيون في الخزينة سوى 187 مليون دولار، وفق مراقبين مطلعين. هذا يدل على حجم الكارثة التي تجتاح اليمن الآن.

 

كان الغرب قد أبقى وبصورة متعمدة، البنك المركزي اليمني في عهدة الانقلابيين، بعد أن شعر أنه كان كريما جدا مع المملكة العربية السعودية بمنحها غطاء دوليا ممثلاً بالقرار رقم 2216 الصادر عن مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع.

 

لقد قصد الغرب وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، أن بقاء البنك المركزي تحت نفوذ الانقلابيين سيتيح لهم فرصة التمويل الذاتي لحربهم طويلة الأمد، عبر وضع اليد على 75 مليار ريال يمني أي نحو مائة مليون دولار شهريا، لا تذهب كلها إلى الموظفين، فقد قاموا بغربلة الجهاز الإداري والعسكري، وفصلوا وأوقفوا مرتبات آلاف الموظفين، وأدرجوا الآلاف من مليشياتهم في كشوف المرتبات.

 

ولأنهم لم يكونوا معنيين بتأمين السيولة النقدية للبنك عبر توريد النقود التي تأتيهم من عوائد الضرائب والجمارك، فقد عمدوا إلى استنزاف الاحتياطي النقدي الذي يمثل مسؤولية مباشرة للسلطة الشرعية، وهي التي كانت تؤمنه من ودائع الدول ومما تبقى من الاحتياطي النقدي القديم، فيما قاموا هم بتوظيف الموارد النقدية لتمويل المجهود الحربي وفي إثراء المئات من قاداتهم وممن يطلق عليهم "المشرفين" الذين وُضِعوا على رأس كل المؤسسات والمرافق، والمعسكرات، وفي الأحياء، وغالبيتهم العظمى بدون مؤهلات ولا خبرات ولا أمانة ولا أخلاق،  فتحولوا إلى تماسيح كبيرة جدا تأكل كل شيء وتعتدي حتى على الأملاك الخاصة، بما فيها المنازل والأراضي والمزارع.

 

حين قررت الحكومة الشرعية، نقل عمليات البنك المركزي إلى العاصمة المؤقتة عدن، سقط القناع عن الانقلابيين، وانكشف أمرهم، وتبين أن سطوتهم لم تكن تستند إلى قوة ذاتية، بقدر ما تستند أصلاً إلى سلاح الجيش وإلى الأموال المودعة في البنك المركزي اليمني، والتي تؤمنها الحكومة دون أي عائد، بل كانت تعاني جراء ذلك استنزاف لهيبتها ونفوذها في دوائر الدولة.

 

لم يكن اليمنيون أكثر بؤسا مما هم عليه اليوم، فالجميع تقريبا يعاني معاناة شديدة جراء عدم صرف المرتبات، والدورة الاقتصادية تكاد تتوقف على حركة المرتبات هذه، فلا إنتاج ولا مصانع إلا القليل منها.

 

تبدأ الدورة الاقتصادية في زمن الانقلاب المليشياوي من محاسب المرفق الحكومي أو الشركة الخاصة، وتمر عبر الموظف وتنتهي إلى المؤجر (مالك المنزل) والبقال والجزار، أي أن الموظف أصبح نقطة عبور سريعة جدا لهذا المرتب الضئيل، والذي لم يكن يكفي احتياجات عائلة الموظف في الأيام العادية.. فما بالكم اليوم وقد تغير كل شيء وضرب التضخم القيمة الشرائية للريال وهو العملة المحلية في اليمن، ولم يعد المرتب يفي بالحد الأدنى من الاحتياجات؟

 

كل العائلات المستورة اليوم تكاد تلحق بعشرات العائلات التي قضت من الجوع في بعض مديريات تهامة على ساحل البحر الأحمر الخاضعة لسلطة الحوثيين والمخلوع صالح.

 

هناك أنات ألم وجوع وإحساس غير مسبوق بمس الكرامة، لا يزيد من وطأتها إلا تعالي الصيحات من قبل الحوثيين والمخلوع صالح وإعلامهم والذي لا يزال يسوق وهم الانتصار على "الأعداء" الخارجيين و"المرتزقة" الداخليين.

 

حتى الحشود القبلية التي تُصرف عليها الملايين، في البيئة العشائرية الحاضنة للانقلابيين لم تعد بذلك الزخم. لقد تحولت إلى مجرد مسرحيات سمجة يؤدي فيها البعض أدوار البطولة والتحريض ثم ينكفئون على أنفسهم وعندهم اليقين الكامل بأن المعركة لا تحتاج إلى الحماس فقط بل تحتاج إلى أن تقترن بفوائد ملموسة خصوصا لدى القبائل التي تحركها نزعة الفيد والنهب والسلب في أحداث كهذه وهو ما لا تتيحه المعارك التي لا تبقي شيئا في ساحة المواجهة، أكان بشرا أم مغانم.

 

يشعر أنصار الحوثيين وصالح أكثر من أي وقت مضى بأن معركتهم خاسرة وأنه لم يعد بوسعهم أن يقدموا أكثر ما قد قدموا، ويعلمون كذلك أن الموت فقط هو الخيار المتاح في المعارك التي يُساقون إليها كل يوم رغم أنوفهم.

 

ومع ذلك تأتي تصريحات وزير الخارجية الأمريكي التي وجهها للحوثيين، هادئة وناعمة كما وصفها بعض المراقبين، ولا تدل على وجود مشكلة، رغم أن تصريحاته على خلفية خرقهم للهدنة السادسة، التي بدأت منتصف ليل الأربعاء-الخميس، ولدى استقباله وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، في مقر الخارجية الأمريكية بواشنطن.

 

طالب الوزير كيري الحوثيين "بسحب أسلحتهم وصواريخهم"، وكأن المشكلة تكمن في سحب الأسلحة والصواريخ وإعادة تخزينها في أماكن آمنة لاستخدامها في دورة حرب جديدة، وليست في وجود هذه الأسلحة أصلاً بيد جماعة طائفية منفلتة.

 

أي غدر هذا الذي لا يزال يطعن في جسد اليمنيين المثخن بالجراح، والذي لا يكاد يجد ما يقيم أوده بعد عجز الانقلابيين عن دفع المرتبات.. والأسوأ أن يأتي هذا الغدر من قوة عظمى والأسوأ منه أن يأتي من دولة جارة شقيقة ومسالمة ومنغلقة مثل سلطنة عمان، التي برهنت وقائع الأيام الماضية أن أنها متورطة في عمليات لا تكاد تنتهي من تهريب الأسلحة للحوثيين في إسناد مباشر لإيران وأجهزتها ولنزعتها الطائفية التوسعية في منطقتنا.

 

لقد فقد اليمنيون كل أمل في تحسن حياتهم، ولم يبق لهم إلا هذا القدر من الضغينة على من ظلمهم وتآمر عليهم وجار عليهم وفجر من واشنطن إلى طهران إلى مسقط، في لحظة كانوا وما يزالون يحتاجون فيها إلى الخروج من دوامة هذه الحرب وتصويب الأخطاء، ومعاقبة الذين خطفوا السلام من أيديهم عندما كادوا أن يثبِّتوا مداميك السلام على أرضهم وأن يؤسسوا دولتهم الاتحادية الديمقراطية الحديثة.

 

 

*عربي21

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر