ثلاث عاداتٍ سيئة في حزيران


أيمن نبيل

في كُل ذكرى لهزيمة يونيو/ حزيران 1967 تتكرر في المقالات الصحافية والمقابلات التلفزيونيّة جمل وأفكار وملاحظات كثيرة من دون موقف نقدي منها، أو محاولة للبناء على الصحيح منها، عوضًا عن تكرارها، وعن الكلام الإنشائي الذي لا يوصل إلى شيءٍ ذي قيمة. وفي السطور التالية مُنتخباتٌ من "العادات السيئة" الكثيرة في يونيو من كل عام، مع التنبيه إلى أن المقصود هو الأغلب، وليس وضع الناس في قوالب:
 
أولا، يشير المثقّف، كاتب المقالة، كل عام إلى مخاتلة النظام القومي آنذاك، وتجميله هزيمته بتسميتها نكسة 67، عوضًا عن هزيمة 67. ويأتى على هذه الملاحظة كأنها اكتشافٌ جديدٌ في كل مرّة، عوضًا عن تسميتها هزيمةً في المقال، وينتهي الموضوع ببساطة.
 
في المقابل، كم عدد المثقفين أو الأكاديميين العرب الذين كتبوا مقالاتٍ صحافية، أو دراساتٍ، وكتبا تتناول برصانة البلاغة السياسيّة للنظام العربي؟ ثمّة من فعل ذلك باقتضاب، مثل شريف يونس في كتابه "الزحف المقدّس"، وكذلك مؤرخون قليلون آخرون قدموا أفكارًا عن الموضوع في سياق عملهم التأريخي. ولكن بصورة عامّة، ثمة نقص كبير في هذا الجانب، كمًا ونوعًا، لا يتناسب مع الجَذَل الذي نلمحه في نفوس مردّدي قصّة النكسة والهزيمة.
 
أمر آخر، حين أقام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مايو/ أيار 2017، مؤتمرًا أكاديميًا عن هزيمة حزيران، كان ملفتًا فيه قول منظميه من المركز إنهم واجهوا صعوبةً في وجود أكاديميين عرب مختصين بالتأريخ للهزيمة! وهذا يعني أن أغلب المواد التي صاغت تصورات الجمهور العربي عن الهزيمة أفرزها السياسي والضابط بمذكراتهما، والمثقف بالمقالة في الصحف أو بفصول في الكُتب.
 
وكاتب المقالة يُعيد الحديث نفسه كل عام، بغض النظر الآن أن جزءًا منه غير صحيح أو إنشائي غير مفيد لفهم الموضوع وتفسيره. هنا نلامس مشكلة مهمة في عالم المقالة وفضاء المثقفين، وهي عدم تقدير كاتب المقالة دوره في المجال العام؛ فالمثقف كاتب المقالة ليس فقط مُهتمًا بالشأن العام واليومي، بل هو أيضًا من يصل الجمهور بعالم الإنتاج الأكاديمي ونقاشات المثقفين النخبويّة بخصوص الشأن العام.
 
في الزمن الراهن، كُتاب المقالات في الصحف ذات التقاليد، والمؤمنة بدور تنويري وأخلاقي (ثمة صحف كثيرة لا تحمل أي همٍ من هذا، وحتى الصحف العريقة في العالم تنطوي على سياسات تحريريّة جارحة للموضوعية)، والصحافيُّون عبر البرامج الوثائقيّة في التليفزيونات هم من يصلون المواطن بنقاشات النُّخب عبر توصيل الأفكار والجدل معها. وفي حالة هزيمة حزيران، ومع استحضار حقيقة نُدرة المصادر البحثيّة العربيّة بشانها، كان، ولا يزال، واجب المثقف والصحافة المكتوبة والمرئية أثقل، فعلى الأقل يتوجب إيصال ذاك النادر إلى الجمهور، كما تجب مناقشة الإنتاجات البحثيّة الإسرائيلية والأميركية عن حرب 67 (وهي كثيرة وتشكّل مكتبة) على صفحات المجلات السياسية والثقافيّة، وفي وثائقيات القنوات، لكي يبقى المواطن العربي في صورة ما يُنتَج عن تاريخه.
 
ثانيا، أما الليبرالي فهو ينتظر هذا الشهر من العام لكي يمارس أمورا كثيرة مُحبّبة إلى قلبه، ومنها استصغاره واستسخافه من يصف حرب حزيران بالمؤامرة.
 
حربا 1967 و1956كانتا مؤامرتين فعلًا، ليس فقط كما رُجّح بالتحليل السياسي منذ زمن، ولكن أيضًا بالوثائق والشهادات لاحقًا. وعلى الرغم من نصف قرن من التجارب السياسية وتراكم الأبحاث وإصدارات الكتب وتغيرات العالم وإيديولوجيّاته، لا يزال أغلب الليبراليين العرب لا يفرّق بين تهم المؤامرة التي بلا دليل ولا عقل ولا أخلاق، والتي ترميها جُزافًا أجهزة الأمن العربيّة والنخب الحاكمة التي تمارس الدّجَل اليومي، والمؤامرة باعتبارها توصيفا مبنيا على التحليل العقلاني، وتقليب بطون الكتب ورفوف أرشيفات الدول، واستعمال أدوات البحث العلمي لتدعيم الحجة وصوغ الأفكار والتأريخ لسياقها. الليبرالي هنا مشعوذ "مودرن"، يطمس الفرق بين الأمرين، بطلسم "نظريّة المؤامرة"، ويرفض العقل والواقع بدعوى العقلانيّة والواقعية! أحيانًا عن قصر نظر وتواضع في القدرات، وأحيانًا عن رغبةٍ في تمرير دعاية سياسية على حساب كل شيء.
 
ثالثا، وللإسلاميين عاداتهم السيئة المميّزة؛ فالإسلامي يُذكّرنا بأكاذيب الإذاعة المصريّة أيام حرب حزيران، وتضليل الناس، ولا أخلاقيّة هذا الفعل. هذا صحيح، ولكن في موضوع الأخلاق والدعاية في حرب 67 ملاحظة مهمة. سمعنا وقرأنا جميعًا عن مراجعات الإسلاميين الكثيرة (واتضح لاحقًا أنها مثل مراجعات القوى الأخرى، قومية ويسارية، كانت تكتيكًا)، ولكن ما يلفت النظر أنها لم تتجاوز الجانب السياسي (والديني المتصالب مع السياسي في حالتهم بالضرورة). في حين أنني لم أقرأ أو أسمع يومًا نقدًا ذاتيًا أو مراجعات بخصوص خطاب القوى الإسلاميّة تجاه قيادات الأنظمة القوميّة، ومثقفي عهدها وفنانيه، عامةً، وعن "تأريخ" وسرد دعاة الإسلاميين يوميات حرب 67 بالنميمة المحضة والشتائم، خصوصا "أين كان الضابط فلان وأين ومع من قضّى علّان ليلته في 5 يونيو".
 
في حقبة المد القومي، وما تلاها، كانت كُتيّبات الإسلاميين السياسيّة وخطبهم وأشرطة الدّعاة المنتمين لهم أو المقربين منهم (كانت حتى وقت قريب تملأ عربات الباعة المتجولين والمكتبات الدينيّة في بلدان عربيّة كثيرة) مليئة بقذف الأعراض والشتم والتخوين بلا دليل. لم يُثِر أحدٌ من الإسلاميين بجديّة، بحسب علمي، هذه المسألة في زمن المراجعات وما بعدها، وكأنها أمرٌ طبيعي، أو أنها لم تحصل!
يشير هذا عمومًا إلى مُشكل كبير، وهو موقع الأخلاقي من السياسي والاجتماعي في الثقافة السياسيّة لنخب الأحزاب؛ فمراجعات كل قوى السياسة لم تُشِر يومًا إلى ضرورة إصلاح هذا العطب الأخلاقي الواضح في تاريخ خطابها. وكلّما اتسعت معارف المرء المتواضعة في التاريخ العربي طوال القرن العشرين، استطاع أن يُبصر الرأس القبيح لهذا المُشكل الأخلاقي، المُطل من شُرفة كثير من معضلات تاريخ العرب المعاصر ومفاصله. وبالمناسبة، لا يمكن فهم انحطاط خطاب القوى السياسية وقيمها في المرحلة الانتقاليّة بعد 2011، واستباحتها استخدام كل شيء في معاركها فيما بينها بدون استحضار تاريخ طويل من غياب الإجماع على حدود وقيم أخلاقيّة داخل الثقافة السياسيّة للنخبة.
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر