(تحليل): كيف استغلت مختلف الأطراف "الظواهر الإجرامية المنظمة" في الحرب اليمنية؟

[ صورة منتشرة لشحنة الأسلحة الإيرانية التي ضبطتها البحرية الأمريكية قرب السواحل اليمنية بينما كانت متجهة إلى الحوثيين في اليمن/ مايو 2021 ]

 

في أحد تقاريره الصادرة مطلع العقد الأول من هذا القرن (الحادي والعشرين)، وصف البنك الدولي بيئات الحرب بأنها مرتع لثلاثة شرور، هي: الإرهاب، والمخدرات، والإيدز.
 
وفي التوصيفات القانونية الدولية، فإن هذه "الشرور" تتضمن ظاهرتين إجراميتين عابرتين لحدود الدول، هما: الإرهاب، والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية (الجريمة عبر الوطنية). غير أنّ عددًا من الدراسات توصلت إلى وجود فروق في انتشار "الإيدز" بين مجتمع وآخر من مجتمعات الحرب؛ فالمجتمعات المحافِظة، التي يسودها التديُّن وتتحكم فيها الأعراف والتقاليد الصارمة، يكون الأيدز فيها أقل انتشارًا من مجتمعات الحرب.
 
وقد دلت شواهد كثيرة أن السلطات الحاكمة في البلدان الغارقة في الصراعات المسلحة، سواء السلطات الرسمية، أم الجماعات الانفصالية، والجماعات المتمردة والإرهابية، كحال الصومال ولبنان وأفغانستان ومالي؛ تتحكم في مجموعة من الظواهر الإجرامية، وتُوجِّهها خدمة لأهدافها السياسية والعسكرية والأمنية، ونحوها؛ ومِن ذلك: تعزيز قدراتها العسكرية، والنَّيل من قوة العدو بإضعاف تماسك جيشه ومجتمعه، عبر تسريب وتوسيع انتشار هذه الظواهر في أرضه، لا سيما المخدرات، والعملات المزيفة، والأسلحة، والمهاجرين غير الشرعيين، وعناصر الجماعات المتمردة والإرهابية.
 

اليمن والظواهر الإجرامية "عبر الوطنية"
 
خلال السنوات الست المنصرمة من التدخل العسكري للتحالف العربي في اليمن (2015-2021)، تفاوَت انتشار الظواهر الإجرامية المنظمة وغير المنظمة، خصوصًا "الإرهاب"، الذي خفُت حضوره تدريجيًا، ثم تهريب المخدرات والإتجار بها، وبيع وتهريب الأسلحة، والمشتقات النفطية، والسلع المسروقة، والآثار والمواد التراثية، والإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين غير الشرعيين..؛ لكنها تظل أبرز ما يتصدر المشهد بين مختلف الظواهر الإجرامية.
 
 وفي سياق الجدل بشأن أنتشار هذه الظواهر الإجرامية، تَرِد أسماء دول ذات صلة، مثل: إيران، والصين، والصومال، والولايات المتحدة، وأحيانًا الكيان الإسرائيلي- الذي هُربت إليه، أوائل عام 2016، نسخة من التوراة، كتبت في اليمن قبل حوالي خمسمائة سنة.
 
على نحو أخص، احتلت تجارة وتهريب الأسلحة وتقنياتها وذخائرها، حيزًا كبيرًا في خريطة الأعمال غير المشروعة التي ترافق الحرب اليمنية الراهنة، امتدادًا لماضيها قبل نشوب هذه الحرب، وذلك لتحوُّل اليمن إلى مَقصِدٍ ومَصدَرٍ، في الوقت نفسه، للأسلحة التقليدية، الخفيفة والمتوسطة..
 
وهو واقع فرضته عوامل مختلفة، أهمها: حاجة أطراف الحرب الداخلية، الرسمية والميليشاوية والإرهابية، نتيجة للحصار الدولي المفروض عليها، وللحرب الداخلية الناشبة في الصومال منذ ثلاثة عقود، فضلًا عن فُرص الكسب الثمينة التي طرحتها الحرب اليمنية أمام المنخرطين (القُدامى والجدد) في هذه الأعمال، وارتباط الكثير منهم بالأجهزة الأمنية ومراكز اتخاذ القرار، وهم- في الغالب- تجار سلاح قُدامى معروفون، وآخرون أفرزتهم الحرب..
 
رصدت تقارير فريق خبراء مجلس الأمن المعني باليمن، خلال الفترة نفسها (2015-2021)، عمليات اعتراض بحرية عديدة لمكافحة تهريب الأسلحة الإيرانية، وغيرها، إلى الحوثيين؛ نفذتها سفن من البحرية الأميركية، وغيرها من بحريات الدول المشاركة في مكافحة الجريمة المنظمة، والإرهاب، والمناشط البحرية غير المشروعة، في بحر العرب وخليج عدن وغربي المحيط الهندي..
 

[للمزيد.. أقرأ: تحقيق دولي يكشف كيف تستخدم إيران شبكات لتهريب الأسلحة للحوثيين في اليمن وللقرن الافريقي (ترجمة خاصة)]

 
[وأقرأ أيضا: فورين بوليسي: إيران استخدمت جماعة الشباب الصومالية لتهريب الأسلحة والنفط الى الحوثيين]

 

 وقد بينت التقارير المناطق الساحلية التي تجري فيها عمليات التهريب، ومن ذلك سواحل محافظتي المَهرة والحُديِّدة، التي تتسلل عبرها الأسلحة المهربة، دخولًا إلى اليمن وخروجًا منه، عبر مراكب شراعية (مراكب الدهو)، ومراكب الصيد السمكي، وعادةً ما يشار إلى سواحل محافظتي لحج وتعز، بأنها مناطق أخرى تجري عبرها مثل هذه العمليات.
 
وأخذت تجارة وتهريب المخدرات حيزًا آخر في سوق الحرب الراهنة، سواءً للاستخدام المحلي، أم للتهريب إلى دول الجوار، خصوصًا السعودية التي ظلت لثلاثة عقود مضت تشكو من تسلل المخدرات إلى أراضيها عبر حدودها مع اليمن..
 
وخلال فترة الحرب الراهنة، شهدت هذه الظاهرة تصاعدًا كبيرًا، بجانب ظواهر إجرامية أخرى عابرة للحدود. وفي منتصف يونيو/ حزيران الجاري، ألقت السلطات المحلية بمحافظة المهرة القبض على خليه مكونة من اثني عشر شخصًا من تجار ومروِّجي المخدرات، بعد شيوع ظاهرة تعاطي/ والإتجار في، المخدرات في هذه المحافظة المطلة على بحر العرب، والمتاخمة لحدود سلطنة عُمان والسعودية.
 

[للمزيد.. أقرأ أيضا: البحرية الأمريكية تعلن ضبط شحنة كبيرة من المخدرات قبالة السواحل اليمنية]



على نحو مماثل، يبرز تهريب "المهاجرين غير الشرعيين"، القادمين من القرن الإفريقي، مستخدمين اليمن كمعبر للتوجه إلى السعودية وبقية دول الخليج العربي، أو البقاء في اليمن كمحطة انتظار، قد تطول كثيرا، أحيانا.
 
ولا تزال موجات الهجرة غير الشرعية إلى اليمن، أو عبره إلى الخليج، في تصاعد مستمر، على الرغم من تدابير دول الخليج المشددة إزاء جائحة كوفيد-19 من جهة، والمخاطر الأمنية التي تواجه هؤلاء المهاجرين من جهة أخرى؛ سواءً مخاطر الانتقال غير الآمن عبر البحر؛ أم مخاطر الحرب وتداعياتها في اليمن. ولا أدلَّ على ذلك من غرق المئات من المهاجرين الأفارقة قبالة السواحل اليمنية؛ في خليج عدن، وجنوبي البحر الأحمر، وتعرُّض الكثير ممن وصلوا إلى اليمن، أو في طريق وصولهم إليه، أو المتوجهين منه إلى الحدود السعودية؛ لتعامل غير إنساني، في حوادث أثارتها- على نحو واسع- وسائل إعلام، ضمن تقارير تم تداولها محليا ودوليا..
 
ووفقا لتقرير فريق خبراء مجلس الأمن المعني باليمن، الصادر مطلع هذا العام (2021)، فإن 350 مهاجرًا لقوا حتفهم أثناء محاولتهم اجتياز الحدود السعودية مع اليمن- في مديرية بني منبه بصعدة- خلال إبريل/ نيسان 2020، فيما حُوصِر 3,000 آخرين في المنطقة نفسها، بعد تلك الحادثة..
 
وأكدت منظمة الهجرة الدولية أن عدد المهاجرين القادمين إلى اليمن من القرن الإفريقي، خلال شهر واحد فقط (يناير/ كانون الثاني من هذا العام:2021)، بلغ أكثر من 2,500 مهاجر. وفي منتصف يونيو/ حزيران الجاري تناقلت وكالات أنباء يمنية، غرق أكثر من 79 مهاجرًا إثيوبيًا وصوماليًا، بينهم أربعة يمنيين، قذفت بهم الأمواج بالقرب من سواحل باب المندب- غربي محافظة تعز.
 
 
استغلال الظواهر الإجرامية في الحرب اليمنية
 
تصدَّر الإرهاب واجهة الاستغلال السياسي خلال الحرب اليمنية. وفي الواقع، لم يكن ذلك سوى امتداد لمنهجية حقبة حُكم الرئيس السابق "علي عبد الله صالح"، الذي استغل عددًا من الظواهر الأمنية خدمة لأغراض سياسية، داخلية وخارجية.
 
وفي الحرب الراهنة، مارس معظم أطراف الصراع هذا الاستغلال، بعضها في سياق إثبات جديّة المواجهة مع تنظيمي القاعدة وداعش، وبما يقرِّب أكثر من القوى الدولية التي تحارب الإرهاب، لا سيما الولايات المتحدة..
 
وتُعَد جماعة الحوثي أبرز أطراف الحرب التي استغلت الظواهر الإجرامية، خدمة لمصالحها السياسية. ومثّلَ ذلك استكمالًا لما بدأته قُبيل- وأثناء- سيطرتها على السلطة عام 2014. وبموجب ذلك اتسعت رقعة السيطرة الحوثية في المناطق التي تمثِّل ملاذات آمنة لتنظيمي القاعدة وداعش، خصوصًا محافظة البيضاء، وسط البلاد. غير أن هذا النهج، أيضا، مثّلَ وسيلة أخرى لقمع المناوئين السياسيين والقَبَليين لجماعة الحوثي، وإلصاق تهمة الإرهاب بهم.
 
إلى جانب ذلك، أيضا، لعب استغلال جماعة الحوثي عمليات تهريب المهاجرين غير الشرعيين، والمخدرات، إلى السعودية، دورًا متعدد الوجوه؛ فعلاوةً على ما تُدرُّه هذه العمليات من أموال تموَّل بها الجماعة عملياتها العسكرية في الحرب الدائرة، فأنها تمثِّل قوة تدمير ناعمة، اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا، ضاعفت من التحديات الداخلية التي تواجهها السعودية في ظل ما أفرزه تدخلها العسكري في اليمن، والانتشار الكبير لجائحة كورونا (كوفيد- 2019) في عموم أراضيها.
 
من جانبه، أيضا، مارس "المجلس الانتقالي الجنوبي" (حركة سياسية انفصالية مدعومة إماراتيًا) أدوارًا مماثلة في مناطق نفوذه في عدن، ومناطق أخرى من محافظتي لحج والضالع؛ مستفيدًا من الدعم العسكري والأمني الإماراتي، الذي أسَّس لمصلحته جهازًا استخباريًا لمكافحة الإرهاب، لا يخضع للحكومة المعترف بها دوليًا، وعزَّز ذلك بقوات عسكرية وأمنية تضاهي ما لدى الحكومة الشرعية.
 
 ولم يقف ذلك عند هذا الحد؛ بل هنالك ما يشير إلى وجود قنوات آمنة لتهريب الأسلحة إلى الحوثيين عبر المناطق الخاضعة للمجلس الانتقالي؛ وذلك ما قد يفسر لنا عدم تعرض قواته (ميليشياته) للاستهداف بالصواريخ والطائرات غير المأهولة، الحوثية، مقارنةً بما تتعرض له قوات الحكومة ومناطق سيطرتها، كما هو الحال في مارب وتعز.
 

 

في جانب ما يسمى "التحالف العربي" لدعم الشرعية اليمنية؛ كان لافتًا أن السعودية والإمارات- بوصفهما أهم الفاعلين الرئيسيين في هذا التحالف- استغلَّا الظاهرة الإرهابية والظواهر الإجرامية الأخرى، لمصلحة أجنداتهما الجيوسياسية في اليمن، وأجنداتهما الأخرى عمومًا..
 
 وذلك ما تجلى أثناء استعادة مدينة المُكلَّا الساحلية بمحافظة حضرموت، من قبضة جماعة "أنصار الشريعة" التابعة لتنظم القاعدة، في شهر أبريل من عام 2016. وكذلك تبرير الإمارات إبقاء بعض من قواتها في المحافظات الجنوبية، أثناء انسحابها منها مطلع عام 2020، بأنها لغرض مكافحة الإرهاب..!! وإن كان ذلك ينطوي على أهداف أخرى، دلّ عليها استهداف الطيران الإماراتي لقوات الجيش الحكومية، أثناء تمرد المجلس الانتقالي، وسيطرته على عدن، في أوآخر أغسطس/ آب 2019.
 
على نحو ذلك، بررت السعودية وجودها العسكري الكثيف بمحافظة المهرة اليمنية. ولم يكن قمع الإرهاب وحده ما استغلته في تبرير ذلك؛ بل ومكافحة تهريب الأسلحة إلى الحوثيين، وكذا مكافحة تهريب المخدرات؛ لكن الواقع يشير إلى سعيها لتحقيق أهداف خاصة بها، يوفرها الموقع الاسراتيجي لمحافظة المهرة، الذي يتيح للسعودية التحرر من التحكمات الإيرانية في تدفق نفطها عبر مضيق هرمز، وإيجاد قنوات بديلة لذلك، وكذا الاقتراب من إيران عبر بحر العرب، فضلًا عن غاية أخرى تتمثل في مزاحمة سلطنة عمان في النفوذ داخل المجتمع المهري، والتشارك القسري في ذلك، وفقًا لما يفرضه جوارها الجغرافي لكل من عُمان، واليمن- صاحبة الأرض..!!
 
أما الحكومة اليمنية، المعترف بها دوليًا؛ فيبدو أنها الحلقة الأضعف من بين كل هؤلاء الفاعلين المؤثرين. وذلك- ربما- نتيجة للصدمات المتتالية التي تعرضت لها، من قبل جماعة الحوثي، والمجلس الانتقالي الجنوبي. إضافة إلى ما ألحقه بها تنظيما القاعدة وداعش، الإرهابيين؛ فقد كانت الخيارات أمامها محدودة، نظرًا إلى ضعف إرادتها، وتحكم التحالف في قرارها السياسي..
 
 ومع ذلك، لم تَسلم هذه الحكومة من الاتهام بانخراطها- هي الأخرى- في استغلال الظواهر الإجرامية. حيث كان فريق خبراء مجلس الأمن المعني باليمن، في تقريره الأخير الصادر مطلع عام 2021، قد أتهمها بالتورط في عمليات تبييض(غسل) أموال؛ قبل أن يتراجع عن ذلك لاحقًا، بعد ما أثبتت الحكومة بطلان استدلالاته في هذا الشأن.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر