لا سلام بدون عدالة.. تأمين نهاية عادلة للحرب في اليمن

  كثيرا ما تصف الدراسات الأكاديمية الصادرة حول العدالة الانتقالية مفاهيم السلام والعدالة بأنهما يقفان على طرفي نقيض: لتحقيق السلام، كما قيل لنا، يجب التضحية أحيانًا بمطالب العدالة، أو بدلاً من ذلك، قد يؤدي السعي إلى تحقيق العدالة في مرحلة ما بعد الحرب إلى تعريض السلام الهشّ للخطر. ومع ذلك، فإن هذا التناقض المفترض قد أصبح تحت محك المساءلة النقدية في الأبحاث الحديثة التي تتناول علاقة التبادل المحتملة بين مسعى تحقيق العدالة وبناء السلام.
 
قبل أسبوع من اليوم العالمي للسلام هذا العام، دعا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مجلس الأمن إلى إحالة الأطراف المنخرطة في الحرب الأهلية اليمنية إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وأصبح الشروع في تحقيق جنائي مع احتمال إصدار لوائح اتهام في خضم صراع مسلح مستمر، نهجا شائعًا للعدالة الانتقالية. تعكس هذه التهديدات بالعقوبات القانونية الدولية الجهود المبذولة لردع المزيد من الفظائع والمساهمة في تسوية النزاعات.
 
في حالة الحرب الأهلية اليمنية، يبدو من غير المرجح أن يقوم مجلس الأمن بالإحالة المطلوبة نظرًا لأن ثلاثا من الدول الخمس الدائمة العضوية – فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة – قد ساهمت في الحرب.
 
ولكن اليوم، يؤكد عدد متزايد من الدول على الولاية القضائية العالمية على جرائم الحرب مثل تلك المزعومة في تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، مما يجعل تهديد المساءلة القانونية عن الانتهاكات الموثقة أداة صنع سلام ذات مصداقية. فهل يمكن لمثل هذا النهج في العدالة أن يعزز السلام في اليمن؟
 
يثبت لنا تاريخ اليمن الحديث وجود المطالبة بالمساءلة عن جرائم الماضي، غير أنه يكشف لنا أيضاً عن تهميشها على نحو متكرر باسم السلام الذي لم يتحقق بعد.  ومع ذلك، فإذا صحّ لصناع السلام أن يبنوا على أساس العمل الذي يقوم به الناشطون اليمنيون حالياً لتعزيز التماسك الاجتماعي والمصالحة على أرض الواقع، فإن السعي نحو العدالة قد يصبح مساراً إلى السلام. وفي غياب تحول في المنهج الذي يتبعه الوسطاء الرسميين للسلام نحو هذه النماذج من بناء السلام اليومية، فإن اليمنيين لن يتمتعوا لا بالعدالة ولا بالسلام.
 

تاريخ من إنكار العدالة

إنَّ الانتفاضة الشعبية عام 2011 ضد نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح وما ترتب عليها من أحداث قد أتاحت الفرصة لتحقيق العدالة بعد عقود من القمع المتزايد والاضطرابات المدنية. لكن سرعان ما تم تقويض هذه الفرصة من خلال اتفاق تم بوساطة خارجية بين صالح والمعارضة الرسمية، والاستيلاء السياسي على العملية الانتقالية التي تلت ذلك من قِبَل النخب الحزبية التي لا تمتلك حافزاً كبيراً لتبني تغييرات حقيقية ذات أهمية. ومن المعلوم أنَّ الإطار الانتقالي المنصوص عليه في إطار مجلس التعاون الخليجي والذي تبنته الأمم المتحدة  قد جعل الأولوية لانتقال سلس للسلطة في محاولة لتجنب حرب أهلية واسعة النطاق. ويحتوي نص الآلية التنفيذية على إشارة صريحة واحدة فقط إلى العدالة الانتقالية، وهو يؤطرها ليس كمحاولة لترسيخ المساءلة عن جرائم الماضي، وإنما كوسيلة “لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في المستقبل”. أمّا الآليات التي يتم من خلالها السعي إلى تحقيق العدالة الانتقالية فقد تركت دون أي تحديد، كما أحيلت المواد ذات الصلة إلى مؤتمر الحوار الوطني كي يبتَّ فيها، وهو مؤتمر مفوض من قبل الإطار الانتقالي للتداول حول الشكل المستقبلي للدولة اليمنية. ومن هنا، فليست ثمة أية إصلاحات تخص العدالة وتتسم بالاستقلال حظيت بالتفويض القضائي اللهم تلك الإشارة البسيطة إلى الحاجة إلى ضمان أن “المهام الحكومية… يتم أداؤها بطريقة منظمة وفقًا لمبادئ الحكم الرشيد وسيادة القانون وحقوق الإنسان والشفافية والمساءلة”.
 
 وفي الوقت نفسه، وتشجيعا للمؤتمر الشعبي العام الحزب الحاكم السابق كي يقبل بترشيح شخصية وحيدة متفق عليها لمنصب الرئيس الانتقالي، فقد أصدر البرلمان عفواً عن صالح، مؤسس المؤتمر الشعبي العام، وعن مساعديه المقربين. أدى هذا إلى سلسلة من الاحتجاجات المتصاعدة في أكثر من اثنتي عشرة مدينة من عواصم المحافظات اليمنية. تجاهلت الحكومة الانتقالية مطالب المتظاهرين بتطهير المؤسسات مكتفية بإجراء عملية تطهير في الحد الأدنى. لم يبق المؤتمر الشعبي العام على حاله فحسب، بل استمر صالح في لعب دور قوي كمخرب للعملية الانتقالية.
 
 في غضون ذلك، عمل الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي على توطيد حكومة تقاسم السلطة، واستعادة بعض مظاهر الأمن، والإشراف على مؤتمر حوار وطني طموح يهدف إلى إعادة تنظيم شاملة للمؤسسات السياسية والاقتصادية في البلاد. وفي أفضل الأحوال، فقد فشلت الفترة الانتقالية من 2012 إلى 2014 في تحقيق هذه الأهداف. ونظراً لعدم وجود إصلاحات حقيقية في القضاء، فقد واجهت الحكومة تحشيدا مستمرا كان يقوم به الناشطون، وإضرابات، وعصياناً مدنياً على شكل “ثورة موازية” استمرت لأشهر في جميع أنحاء القطاع العام؛ وهو الأمر الذي لم يحظ إلا بقدر يسير من الاهتمام الدولي. ولم يكن المطلب المحبط بالعدالة الانتقالية في شكل المساءلة، والاعتراف، بل وربما تدابير الإصلاح، سبباً في اندلاع الحرب الحالية، بل إن تهميش مطالب الناشطين لصالح “السلام”  قد كان هو السبب في زيادة حرمان اليمنيين من مؤسسات الدولة بوصفها ضامنة للحقوق.
 
 قد يبدو أنَّ هذه الملاحظات تتماشى مع وجهة نظر البعض القائلة بأن عملية الانتقال السياسي السيئة التنفيذ قد تكون علاجًا أسوأ من المرض، ولكن هذه الحجة أيضاً من الممكن أن ينقضها تاريخ اليمن. لم تُتبع الحرب الأهلية عام 1994 – التي لم تدم طويلاً وكانت أقل تدميراً من الحرب الحالية – بجهود لتحقيق المصالحة أو العدالة الانتقالية. بدلاً من ذلك، لم تؤد إعادة الهيكلة المؤسسية بعد الحرب إلا إلى زيادة تعزيز قوة النظام، مما أدى إلى مظالم استمرت عشرين عامًا وساهمت في مطالبة الحراك الجنوبي والآن المجلس الانتقالي الجنوبي بالاستقلال.
 
 وإذا كانت اللحظات الانتقالية تعتبر تصدعات تتيح الفرصة لإعادة النظر جذريًا في الأفكار والمؤسسات القديمة خلالها، فإن هناك إيماناً في غير محله بافتراض أن تصدعات من هذا القبيل تؤدي فقط أو بشكل مباشر إلى غايات ديمقراطية أو ليبرالية. وبالرجوع إلى الوقائع، فإن كلا من 1994 والفترة بين 2012 و2014 تمثل لحظات لم يتم فيها السعي إلى العدالة الانتقالية بجدية أو مصداقية من قبل أولئك الذين كانت لديهم السلطة بما من شأنه تنفيذ الإصلاحات الديمقراطية، ولكن بدلاً من ذلك فقد استخدمت تلك الفرصتين من أجل توطيد السلطة غير الخاضعة للمساءلة في أيدي القادة خلال تينك الفترتين؛ وهو ما كان عاملا لتأجيج المزيد من الصراع.  ومن خلال رفض أو إسقاط مطالب العدالة، فقد ساهم صناع القرار خلال كلا الفترتين في العنف والاضطراب الاجتماعي اللذين ادعوا أنهم يواجهونهما.
 
 
العدالة لبناة السلام

إن المخاوف من الحرب الأهلية والتدهور التي دفعت اليمنيين إلى قبول اتفاقية معيبة في عام 2011 قد بدأت تظهر نتائجها الوخيمة منذ فترة طويلة؛ ولاسيما بعد أن بدت حاجة اليمنيين ماسة إلى اتفاق ينهي الصراع القاسي وإلى معالجة الأزمة الإنسانية الناتجة عنه. تُظهر السوابق من الصراع الماضي في اليمن أن إنهاء القتال في حد ذاته غير كافٍ لتلبية مطالب المواطنين بالحكم الخاضع للمساءلة. بدلاً من ذلك، يحتاج صانعو القرار إلى التفكير بصدق في الدور الذي يمكن أو ينبغي للعدالة أن تلعبه في دعم بديل للمعاناة المستمرة خلال السنوات الخمس (أو الخمس والثلاثين) الماضية وفي بناء مستقبل أفضل.
 
 إن العمل الجاد المتمثل في الجمع بين بناء السلام والعدالة الانتقالية لن يتم من خلال المحاكمات الجنائية الدولية من قِبَل المحكمة الجنائية الدولية، ولو أن التهديد بالمسؤولية الفردية قد يحفز أطراف الحرب على العمل بقدر ٍأعظم من الجدية من أجل السلام. هذا؛ علاوة على أن العدالة الجزائية من النوع الذي تسعى إليه المحكمة الجنائية الدولية ليست فعالة بشكل خاص في تعزيز المصالحة أو التماسك الاجتماعي أو متطلبات السلام المستدام. ووفقا لما تذهب إليه الباحثة نيفين أيكن، فإن المصالحة بعد الصراع تتطلب “التعلم الاجتماعي” الذي يسمح للخصوم السابقين بتطوير الثقة المتبادلة، ولكن هذا التعلم يعتمد على معالجة الظروف الهيكلية والمادية. يمكن لمؤسسات العدالة الانتقالية (وإن كان ذلك ليس داخلا في تعريفات اختصاصها) أن توفر فرصًا عامة لمعالجة المصادر المؤسساتية للصراع وبالتالي تمكين (إعادة) التعلم الاجتماعي.
 
وما يبعث على السرور هو أن بعض (إعادة) التعلم الاجتماعي جارية بالفعل في اليمن. ومع ذلك، فإن الجهات الفاعلة غير المقاتلة المستبعدة من المفاوضات الرسمية قد انخرطت في العمل الشاق المتمثل في العمل المدني، حيث يعملون مع آخرين في سبيل تلبية احتياجات المجتمع بطريقة تشكل نوعًا من بناء السلام اليومي. وطبقا للتوثيق الذي اضطلعت به فرق البحث في مركز البحوث التطبيقية بالشراكة مع الشرق ومنظمات أخرى بشكل متزايد، فإن اليمنيين ينهضون بمثل هذا العمل في مواجهة الظروف الصعبة، سواء كان ذلك بالتنسيق مع مجموعة من السلطات المحلية أو بشكل مستقل. وفي هذا السياق يجري التواصل بين الأفراد والمنظمات متجاوزا الحواجز الطائفية أو القبلية أو العمرية أو غيرها من الحواجز الرمزية. ويجري التفاوض مع السلطات المحلية من أجل التوسط في إيجاد حلول خلاقة لقضايا مختلفة ومتعددة كتأمين الوصول إلى الماء والغذاء والدواء، ومكافحة تجنيد الأطفال، وزيادة معدلات زواج الأطفال، وغيرها من القضايا. وفضلا عن ذلك، فإن هؤلاء المواطنين يشاركون في جهود تتسم بالاستشراف إلى المستقبل، مثل المساعدة في بناء البنية التحتية من أجل تمكين النشاط الاقتصادي للمرأة، وتدريب ودعم وسائل الإعلام الحرة، والمساعدة في إعادة الإعمار.
 
 إن هؤلاء المواطنين اليمنيين، بهذه المساعي، يضطلعون ببعض الأعمال التي غالبًا ما تقدمها المؤسسات غير القضائية للعدالة الانتقالية بعد انتهاء الحروب، وهو الأمر الذي يخلق فرصًا لإصلاح العلاقات التي مزقتها النزاعات ويسهم في تعزيز عملية إعادة التعلم التي تساهم في التماسك الاجتماعي. ويتمثل التحدي الآن في الاعتراف بهذه الجهود -بالإضافة إلى عمل اليمنيين في توثيقها وتعزيزها -باعتبارها مكونًا جوهريًا لبناء السلام، ينبغي فعل ذلك حتى تكون بمثابة الداعم والرافد للجهود الدبلوماسية الرسمية.
 
 وعِوضا عن النظر إلى عملية المفاوضات التي تجري برعاية دولية على أنها “تجلب” السلام ومؤسسات دعم السلام إلى اليمن، فإنَّ على وسطاء السلام التعلم من ممارسات بناء السلام التي تجري على الأرض، كما ذكرنا آنفا، ودعمها وتوسيع نطاقها، وهذا من شأنه أن يتماشى مع النهج الذي يركز على الضحايا في العدالة الانتقالية، وأنْ يوسِّع التمثيل في أوساط الذين عانوا جراء هذه الحرب الأهلية. إنَّ من شأن نهجٍ من هذا القبيل أن يستخلص العبر والفوائد من اليمنيين أنفسهم، الذين لا يعتبرون عبارة “#اليمن_لايستطيع_الانتظار” مجرد استراتيجية إعلامية، بل إنهم يمارسون ذلك بوصفه واقعا معاشا؛ فهم يضطلعون بتلك الجهود المذكورة ولا ينتظرون.

--------------------------
الكاتبة: ستايسي فيلبريك ياداف أستاذة مشاركة ورئيسة قسم العلوم السياسية في كلية هوبارت وويليام سميث في جنيف، نيويورك، وتعمل في مجلس إدارة المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية ومركز البحوث التطبيقية بالشراكة مع الشرق. شاركت مؤخرًا في كتابة موجز لمركز البحوث التطبيقية بالشراكة مع الشرق بعنوان “دور المرأة في بناء السلام في اليمن” (مع إيمان الجوفي وبلقيس زبارة) وتعمل حاليًا على إكمال كتاب عن الجهود السابقة والحالية في مجال العدالة الانتقالية في اليمن.
 

- المصدر: المركز اليمني للسياسات- ألمانيا
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر