ثورة فبراير في "الجوف".. من الإهمال والجهل إلى التنمية والوعي (تقرير خاص)

[ أثناء زيارة محافظ المحافظة اللواء أمين العكيمي لكلية التربية بالمحافظة 25 أبريل 2018 ]

  هنا، على بعد 170 كم شمالي شرق العاصمة اليمنية صنعاء، وفي واحدة من أكبر المحافظات اليمنية النائية الممتدة على صحراء الربع الخالي، أصبح بإمكانك اليوم أن تستمتع بصباحية شعرية عن ثورة 11 فبراير 2011، ينظمها طلاب كلية التربية، أول صرح جامعي وليد الثورة في محافظة ظلت منسية طوال فترة حكم النظام السابق.  
 
وهنا، في هذه المنطقة القبلية التي لم يعرف أبناؤها سوى السلاح والثأرات المتوارثة، يمكنك اليوم أن تفتح مذياعك، في المنزل أو في سيارتك، لتستمع إلى تشكيلة متنوعة من البرامج التوعوية والترفيهية؛ أحدث الأخبار؛ وموسيقى مفعمة بالأغاني الوطنية، وهي تصدح من إذاعة الجوف؛ أول إذاعة محلية لأبناء المحافظة.
 
كلية جامعية واحدة، وإذاعة محلية، ومستشفى حديث، وكهرباء، ومحكمة ابتدائية، وتخطيط حضري ومشاريع طرقات،...، كلها قد تبدو لك أشياء بسيطة. لكنها في نظر أبناء الجوف، ومن يعرف المحافظة الكبيرة (مساحتها: 39,496 كم2)، والإهمال والتهميش الذي عانته طوال الفترة الماضية، يدرك حتما مقدار هذه التحولات التي تعيشها اليوم، ما بعد ثورة فبراير المجيدة.
 



الجوف قبل فبراير
 
ظلت الجوف لعقود طويلة غائبة، أو على الأحرى "مُغيبة"، عن الاهتمام الرسمي للدولة. فمنذ قيام الجمهورية اليمنية إبان ثورة 26 سبتمبر 1962، حتى ثورة 11 فبراير 2011، والجوف معزولة تماما وغارقة في بحر الجهل والثأرات وانعدام كلي للتنمية، في كافة المجالات، تقريبا.
 
ثمة اعتقاد سائد هنا، أن نظام علي صالح، السابق، عَمِدّ إلى تهميش المحافظة وعزلها لأسباب تاريخية ومناطقية ذات بعد عشائري، غالبا. حتى غدت الحياة، بالنسبة لغالبية أبناء الجوف، ليست أكثر من بندقية. وكان سقف أحلامهم لا يتعدى الخبز والبارود.
 
هذا التهميش، مع الوضع القبلي المعقد الذي عاشته الجوف، انعكس بأثر سلبي على وضع المحافظة، ليفقدها الأمن والاستقرار، باعتبارهما أهم أسباب النهوض، لتعيش محافظة الجوف حالة مأساوية طويلة حرمت خلالها من أبسط مقومات الحياة في شتى المجالات، تقريبا، من بنية تحتية وتعليم وصحة وكهرباء وشبكة طرقات معبدة وقضاء...الخ.  
 
مدينة الحزم، عاصمة المحافظة، لم يكن فيها سوى شارع يتيم معبد بلا أناره ولا فنادق ولا أسواق ولا مواصلات ولا مطاعم؛ صورة مأساوية لإهمال الدولة وتقصيرها. إنها صورة حاضرة من الزمن القديم في القرن الواحد والعشرين..!!
 
كما أن الوعي المتدني نتيجة ضعف التعليم والاقبال عليه، مع غياب الدولة الذي عانى منه الجوفيون، ألقى بظلاله على نمط الحياة في المحافظة. فليس ثمة ما يمثل الدولة سوى مبنى المحافظة. القضاء والأمن والمدنية، لا مكان لها. فهنا لا صوت يعلو فوق صوت البندقية.
 
وصل الأمر، إلى أن تكون محافظة الجوف- بالنسبة للدولة المركزية- مجرد منفى لمن تسعى الحكومة المركزية إلى معاقبته من الموظفين المقصرين أو المخالفين أو غير المؤهلين. على حد وصف سابق لأحد موظفي البنك المركزي اليمني، أصبح مضربا للأمثلة عند الحديث عن الكادر الحكومي في الجوف.  
 
والمفارقة أن كل ذلك حدث، مع أن محافظة الجوف تعتبر هي السلة الغذائية للجمهورية اليمنية. فوفقا لدراسة هولندية أجريت خلال الأعوام السابقة لثورة فبراير، أكدت أنه لو تم زراعة المحافظة فأن إنتاجها سيكفي 40 مليون نسمة، وأن إنتاجها يمثل 28% من انتاج الجمهورية اليمنية. لكن غياب الدولة واهمالها حولها من سلة غذائية إلى سلة هموم.
 

ثورة فبراير في الجوف
 


جاءت ثورة فبراير بمثابة المنحة الربانية لكافة اليمنيين، وأبناء الجوف على وجه الخصوص، لتخلصهم من ربقة استبداد نظام فاسد جثم على ظهر الوطن 33 عاما. وكانت المفارقة، أنه على الرغم مما تمتاز به قبائل الجوف من شراسة وقوة وحمل للسلاح، إلا أن محافظة الجوف كانت أول محافظة تسقط بيد الثوار سلميا، بمسيرة حاشدة سقط فيها الشهيد ناجي مصلح نسم، وجرح عدد أخرون من الثوار.  
 
وعما تمثله هذه الثورة بالنسبة لأبناء الجوف، يقول مدير مكتب حقوق الإنسان عبد الهادي العصار: في ثورة فبراير خرج جميع أبناء الجوف بصدور عارية إلى ساحة الاعتصام بثورة سلمية، متمسكين بمبادئ وأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين.
 
وأضاف لـ"يمن شباب نت": لقد خرج الثوار لينقذوا المحافظة التي كانت في موت سريري تسبب به نظام صالح طوال الفترة الماضية من الحكم.
 
ومنذ البداية، سعت ميليشيات الحوثي إلى إفشال مسار الثورة، مبتدئة بذلك من محافظة الجوف. فعقب سيطرة ثوار فبراير على المحافظة سلميا، حاول الحوثيون فرض سيطرتهم المسلحة عليها أملا منهم لضمها إلى محافظة صعدة المجاورة، مركزهم المقدس.
 
وأوضح العصار: ظلت الجوف تحت سيطرة الثوار، في حين أراد الحوثيون توسيع نفوذهم بضم المحافظة إلى جوار صعدة، حيث قاموا بمهاجمة المحافظة من جبال سدبا ومديرية الغيل، بغية السيطرة عليها بدعم من/ وتواصل مع/ النظام السابق.
 
من جهته، أيضا، أكد رئيس منظمة الجوف للحقوق والحريات مبخوت عذبان على أن الجوف خاضت حربا شرسة مع المليشيات الحوثية، التي تظاهرت بأنها ثورية في 2011.
 
وأضاف لـ"يمن شباب نت": لكن الثوار وقفوا بقوة في وجه أطماع الحوثي بالتوسع وضم محافظة الجوف إلى سيطرتهم بتنسيق كامل مع النظام السابق الذي قام بسحب كافة المؤسسات من المحافظة ونهبها ليتسنى للحوثيين السيطرة عليها وقمع الثوار ووأد أحلامهم بدولة مدنية تسود فيها العدالة والديمقراطية.
 
وأضاف عذبان: استطاع الثوار الثبات دون انكسار ملحقين بالحوثيين خسائر فادحة، حتى تم توقيع المبادرة الخليجية أواخر 2011. وفي سبتمبر 2012، تم تعيين الشيخ محمد سالم بن عبود كأول محافظ للجوف بعد الثورة.
 
حينها، بدأت محافظة الجوف وللمرة الأولى بالدخول في حيز الاهتمام الرسمي من قبل الدولة الجديدة، دولة فبراير. حيث أكد محمود النقيب، أحد الموظفين في مكتب المحافظ، أن المحافظ الجديد "بن عبود"، وبرغم المضايقات والتهديدات، شرع بالتخطيط لمشاريع تنموية ملحة لخدمة المحافظة، كفتح خط بين الجوف ومديرية أرحب بمحافظة صنعاء، والتنقيب عن النفط في المحافظة- التي يقال أنها تكتنز تحت تربتها أكبر مخزون نفطي في البلاد- إلى جانب تأسيس وإطلاق إذاعة الجوف المحلية، وشراء مولدات الكهرباء وإيصالها إلى المديريات...
 
وأستدرك النقيب، ضمن حديثه لـ"يمن شباب نت": إلا أن الكثير من هذه المشاريع لم ترى النور، بسبب عودة الميليشيا الحوثية وانقلابها على الدولة في سبتمبر 2014.
 
وهنا أيضا، لم تكن محافظة الجوف لقمة سائغة لميليشيات الحوثي. فقد شرع أبناء المحافظة تحت قيادة زعماء قبائلها المخلصين إلى حمل السلاح ومواجهة الميليشيات الانقلابية منذ الوهلة الأولى للانقلاب. وقد استعادت حتى الأن ما يزيد عن 85% من أراضي المحافظة التي سيطرت عليها الميليشيات، قبل وبعد الانقلاب.

 


فبراير.. ثورة وعي
 
 وفي 18 ديسمبر عام 2015، استعادت القوات الشرعية السيطرة على مدينة الحزم، عاصمة المحافظة، وإخراج الميليشيا الحوثية التي عاثت فيها فسادا. وبهذا التحرير دخلت المحافظة عصرا جديدا، سعى فيه أبناؤها لتعويض الحرمان من الدولة ومؤسساتها لعقود. حيث اتجه أبناء المحافظة إلى التنمية والتعليم بنهم وبهمة عالية.
 
يقول مدير مكتب حقوق الإنسان في المحافظة عبد الهادي العصار إن ما تشهده المحافظة اليوم من تنمية وإعمار وتطوير للبنية التحتية هو نتاج طبيعي لثورة فبراير، التي يعتبرها العصار بمثابة "ثورة وعي" بالنسبة لأبناء الجوف.
 
وهو ما يؤكده أيضا، رئيس المكتب الفني في المحافظة المهندس عارف الحيدري، من أن محافظة الجوف شهدت تناميا غير مسبوقا للوعي الجمعي بعد ثورة فبراير، لافتا إلى أن دليل هذا الوعي هو حرص ابناء الجوف على التنمية والتعليم والتمدن بعد أن كانوا لا يأبهون للمشاريع التنموية في السابق.
 
ويعتبر الحيدري، في تصريحاته لـ"يمن شباب نت"، أن هذا هو المكسب الحقيقي من ثورة فبراير: "الوعي"، بإعتباره الحلقة التي كانت مفقودة في التركيبة الاجتماعية لأبناء الجوف. وعليه، يرى أنه "لا خوف على أبناء المحافظة بعد الأن، لأنهم أصبحوا أكثر وعيا بحقوقهم ومصالحهم".
 

[أقرأ أيضا: الجوف: قوات الأمن تقيم عرضا عسكريا مهيبا احتفاء بالذكري الثامنة لثورة فبراير]

 

التنمية.. ثمار فبراير
 


على الصعيد التنموي، ثمة الكثير من المشاريع التي عملت السلطة المحلية على إنجازها، وما زالت تعمل على أخرى، بقيادة محافظ المحافظة الحالي الشيخ أمين العكيمي. وبرغم شحة الإمكانات، إلا أن هذه الفترة تعد بمثابة الفترة الذهبية للمحافظة، مقارنة بماضٍ أليم عاشته المحافظة لعقود.

وهنا، نستعرض، بشكل سريع، أبرز تلك المشاريع: -
 

- كلية التربية والعلوم التطبيقية

أولى أبناء الجوف الجانب التعليمي اهتماما كبيرا، بعد إدراكهم مدى أهمية التعليم لبناء المجتمعات. وجاءت ثمرة هذا الاهتمام بافتتاح كلية التربية والعلوم التطبيقية في 25 ابريل 2018 كخطوة تمهيدية أولى لإنشاء جامعة الجوف مستقبلا.
 

[أقرأ أيضا: الجوف: طلاب التربية ينظمون صباحية شعرية احتفاء بالذكرى الثامنة لثورة فبراير]

 
- مستشفى الجوف العام



 مع تردي الأوضاع الصحية في المحافظة جراء الفقر والجهل، فقد عانى أبناء الجوف كثيرا من عدم وجود مشفى متكامل. ولذلك أولت السلطة المحلية اهتماما كبيرا بتجهيز مستشفى الجوف العام الذي تم افتتاحه منتصف فبراير 2016، بعد أن ظل مغلقا لثلاث سنوات متتالية جراء الحرب التي فرضتها ميليشيات الحوثي.
 
وقد تم افتتاحه بغرفة طوارئ واحدة، وتم تجهيزه على مراحل حتى وصل إلى الصورة الحالية، حيث أصبحت تقام فيه عمليات جراحية مختلفة. وتفيد إحصائية حصل عليها "يمن شباب نت" أن عدد الحالات التي يتم علاجها تصل إلى أكثر من مائة ألف حالة مرضية خلال العام.
 
ومؤخرا، في أواخر أكتوبر الماضي (2018)، تم افتتاح مشروع الأجهزة والمعدات الطبية لمستشفى الجوف بدعم من الشقيقة السعودية ضمن البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن.  

 


- إذاعة الجوف المحلية

لأول مرة في هذه المحافظة النائية، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من نصف مليون وربع نسمة، يتم إنشاء إذاعة محلية في المحافظة، والتي تم افتتاحها مطلع أبريل 2017 بجهود ذاتية من السلطة المحلية، في إطار حرصها على توعية المجتمع وتحرير فكره من رواسب الجهل والثأر.
 

- التخطيط الحضري للمحافظة

ولأول مرة، أيضا، يدخل التخطيط الحضري حيز التنفيذ في محافظة الجوف. حيث قامت السلطة المحلية في مطلع العام المنصرم (2018) بتفعيل دور المكتب الفني، ليقوم بتنفيذ المخطط الحضري والتعديل عليه، بدء من مدينة الحزم- عاصمة المحافظة. حيث شهدت المدينة افتتاح الشوارع الرسمية الرئيسية والفرعية. ما أدى الى ارتفاع أسعار العقارات والأراضي، وازدهار الاستثمار في المدينة.
 

[شاهد أيضا (فيديو): البدء بإنشاء طريق الجوف - حضرموت بطول 160 كيلومتر]

 

- محكمة الجوف الابتدائية



ولأول مرة، أيضا، تشهد محافظة الجوف افتتاح محكمة ابتدائية مطلع العام المنصرم، وذلك بعد أن ظل القضاء غائبا تماما عن المحافظة في السابق. وشرعت محكمة الجوف الابتدائية، برئاسة القاضي علي المخرفي، بعقد جلساتها في مبنى المحافظة بمدينة الحزم.
 
 وتعليقا على هذا المنجز التاريخي، يقول القاضي علي المخرفي رئيس المحكمة إن ابناء المحافظة وصلوا لدرجة الوعي التي تمكنهم من المثول أمام المحكمة دون استخدام السلاح والقوة في أخذ الحقوق،
 
وأضاف لـ"يمن شباب نت": وهذا دليل واضع على ما أنتجته ثورة فبراير من تغير في الوعي الجمعي لدى أبناء المحافظة.
 

- مشروع كهرباء الطاقة المشتراة

كانت مشكلة الكهرباء من المشاكل العويصة التي يعاني منها أبناء محافظة الجوف. حيث الحاجة ماسة للكهرباء وخصوصا في الصيف الحار الذي يحتاج فيه الناس إلى تشغيل المكيفات والمراوح في بيئة صحراوية حارة غالبا، ما دفع السلطة المحلية بقيادة المحافظ العكيمي لجعلها أولوية، حتى تم شراء محطة كهربائية (طاقة مشتراة)، والتي دخلت العمل في شهر مايو 2018، لتستمر الكهرباء بشكل دائم دون انقطاع.
 



وأخيرا؛

 يعتقد الكثير من أبناء الجوف أن المكسب الحقيقي من ثورة 11 فبراير، هو ارتفاع نسبة الوعي لدى أبناء المحافظة، مقارنة بماض سادت فيه الثأرات والجهل. وهذا الوعي الظاهر، انعكس على أرض الواقع على شكل مشاريع تعليمية وتنموية جادة لتحسين مستوى المحافظة. كما أنّ لوجود النازحين، الذين نزحوا من محافظات ومناطق أخرى إلى المحافظة، كان له أثرا واضحا في نشر ثقافة جديدة إلى جانب إعمار المحافظة.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر