وقفات في الذكرى الثامنة لثورة فبراير | تحولات ما بعد فبراير (3 - 3)

 
 
للعودة إلى الحلقة الأولى: إرهاصات ما قبل الثورة (1 – 3)

 -----------------------------------------------------
للعودة إلى الحلقة الثانية: في خضم الثورة (2 - 3)

 -----------------------------------------------------
 

من الشرعية الثورية إلى الشرعية التوافقية
 
 لم تكن المبادرة الخليجية حلّا مرضيّا يلبي تطلعات الحراك الثوري كما يطمح الشباب؛ لكنها كانت بمثابة قاعدة توافق تمثل الحد الأدنى لإجراء انتقال سياسي يمكن البناء عليه فيما بعد لاستكمال عملية تحول ديمقراطي بالتدريج.
 
وفي بلد كاليمن، تركيبته الاجتماعية هشة وقابلة للانزلاق للصراع بشكل كبير، كان احتمال عسكرة الثورة ودفعها للعمل المسلح وارد بشكل كبير. ورغم ممانعة الحراك الثوري لذلك، إلا أن احتمالات دفعه للعنف ظلت باقية، خصوصًا إذا طال زمن التظاهر ولم تتوفر مخارج سياسية تضمن عملية انتقال سلس بشروطه الدنيا، ومن ثم التعويل على إمكانية مواصلة الإصلاح من داخل النظام نفسه.
 
من هذا المنطلق، ولهدف تفويت الفرصة على النظام بجر البلد لحالة صراع مفتوح كما كان يهدد ضمنيّا، قبلت المعارضة الدخول في عملية سياسية مناصفة مع النظام. وبهذا تحقق اعتراف متبادل بشرعية جزئية لكل طرف من قبل الطرف الأخر. لتنتقل فبراير من الشرعية الثورية الخالصة إلى الاشتراك في شرعية توافقية مع النظام التي ثارت عليه نفسه.
 

محاولات إصلاح النظام من الداخل
  
 لاحقا، وبعد أن تقدمت العملية السياسية وتوجت بالتوافق على انتخاب الرئيس هادي في 22 فبراير من العام 2012، ثم انطلاق مؤتمر الحوار في مارس من العام التالي 2013. واصلت المكونات الثورية نضالها لإصلاح النظام من الداخل هذه المرة. وتم ذلك عبر مسارين: أحدهما سياسي وتمثل في حشد المكونات والدخول في حوار يؤثث النظام السياسي للبلد من جديد؛ والأخر مسار ثوري تجلى قبلها بوضوح من خلال دعم ثورة المؤسسات بعد توقيع اتفاق نقل السلطة بفترة وجيزة.
 
تلك المحاولات كانت خطوة ثورية ذكية مكّنَت فبراير من خلخلة جزء بسيط من سلطة الفساد. لكن هذا المسار الثوري الداخلي لم يتواصل، وتم توقيفه بعد بيانات احتجاج أصدرها حزب المؤتمر الشعبي الحاكم الذي كان يسيطر على 90% من مؤسسات الدولة تقريبًا، و50% من وزارات الحكومة. حيث شعر حينها بأن نفوذه مهدد ويتقلص بالتدريج لصالح عملية الإصلاح الثوري الذي يقوده مناصري الثورة داخل مؤسسات الدولة، وبدعم الغالبية من المكونات السياسية لفبراير.
 

خديعة الحوثي وإجهاض العملية الانتقالية
 
 كان الحوثي هو المكون الوحيد الذي رفض المبادرة الخليجية. لكنه مارس تحايلًا مكشوفا عليها، وقَبِل الدخول في مؤتمر الحوار، الذي يعد بمثابة الخطوة الإجرائية الكبرى التي تضمنتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. بهذا التحايل تمكن الحوثي من اللعب على الحبلين؛ واضعا إحدى قدميه في مؤتمر الحوار، والقدم الأخرى يقضم بها جغرافيا البلد وينازع الدولة سيادتها على الأرض؛ بدءً بدماج، ومرورا بعمران، وصولًا لاجتياح عاصمة الدولة بالكامل في 21 سبتمبر من العام 2014.
 
كانت خطوة اجتياح العاصمة بمثابة الصدمة التي انهار عندها كل ما راكمته فبراير من نجاحات بطيئة في سبيل التأسيس لدولة وإصلاح النظام من الداخل. عند هذه النقطة كان الحوثي قد أجهز على العملية الانتقالية بالكامل، وكل محاولات احتواء الموقف وإنقاذ المسار اصطدمت بتعنت سلطة الأمر الواقع الحوثية، لينتهي الأمر بفخ صادم للجميع.
 
عندها كانت النخب في لحظة شلل، وتحديدا الرئاسة ومكونات فبراير والمشاركين في العملية الانتقالية. باستثناء النظام السابق، الذي كان مرتاحا لهكذا خطوة، والتي تأكد لاحقا مشاركته فيها. فقد كانت عيونه، منذ اللحظات الأولى لتوقيع اتفاق نقل السلطة، مفتوحة على أي نافذة ممكنة لإجهاض التجربة، وقد فعل.
 

كيف مرت الخديعة الحوثية..؟
 
 طبيعية أي مرحلة انتقالية، تكون البلد في حالة سيولة كاملة على كل المستويات، سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا. ومن هده الفجوات الأربعة تسللت الحركة الحوثية وتمكنت من تمرير مشروعها أمام الجميع.
 
فسياسيا؛ كان هناك مزاج يتحاشى الدخول في أي صراع مسلح مع أي مكون اجتماعي. استغل الحوثي هذا المزاج المتراخي للدولة، وتوفر له ظرف تمدد آمن، ثم استثمر انتهازية بعض النخب السياسية وتواطؤها معه- نكاية بخصومها. إلى جانب استغلاله أيضا الوضع الاقتصادي المتأزم. وهكذا اجتمعت كل هذه الأسباب والعوامل لتمكن الجماعة من التسلل ومواصلة مشروعها العسكري حتى إسقاط العاصمة. وبهذا تكون الخديعة قد مرت بالكامل في لحظة تواطؤ تأريخي تكشفت صدمته للجميع فيما بعد.
 
 
النفاق الإقليمي والأممي إزاء إجهاض تجربة الثورة
 
لم يكن الحوثي يتحرك عسكريا بمعزل عن عيون الخارج. لكن الجميع كان يغض الطرف عنه، لسبب أو لأخر. وحين اكتملت الكارثة، وجاء تصريح مستفز من طهران بأن العاصمة العربية الرابعة باتت في قبضتهم، بدأ القلق الخليجي يظهر. في مشهد يعكس عشوائية الخيال الاستراتيجي لدول الخليج وعبثيته. حيث لم يفصل بين مشاعر ارتياحهم للتحرك الحوثي، وقلقهم منه سوى أربعة أشهر.
 
قبل ذلك، وبالتزامن مع لحظة الاجتياح الحوثي للعاصمة، كان ثمة طبخة سياسية جاهزة برعاية المبعوث الدولي. حاولت تلك الطبخة، تحت مسمى "اتفاق السلم والشراكة الوطنية"، تخفيف الطابع الانقلابي للفعل الحوثي وامتصاص الصدمة بإخضاع الجميع لهذا الاتفاق (السلم والشراكة الوطنية). وهو اتفاق ساهم في تخدير الشارع وتضليله عن حقيقة ما جرى. وفي الوقت ذاته، ساهمت الرئاسة أيضا في تمرير ذلك الاتفاق، تحت وقع الضغط الأممي، وبالأمل الزائف نفسه، لاحتواء الموقف.
 

اكتمال الانقلاب.. انقطاع المسار السلمي للثورة
 
مرت أشهر قليلة، وبدأت الأحداث تزيح الغشاوة عما جرى، لتتجلى حقيقة انقلاب مكتمل على مسار العملية السياسية وإجهاض لتجربة الانتقال السلمي الذي مهدت له ثورة فبراير. عندها تأكد الجميع تماما أن الدولة صارت رهينة في قبضة جماعة طائفية عنيفة، وبأن غالبية النخب كانت متواطئة، بوعي وبدون وعي، مع تلك الخطوة الفادحة التي أعادت كل شيء إلى نقطة الصفر مرة ثانية.
 
مرت الأحداث بدراماتيكية غير متوقعة، وتأزم الوضع أكثر، ليكشف صعوبة التعايش مع سلطتين مزدوجتين؛ إحداهما سلطة "الأمر الواقع" تمثلها جماعة الحوثي وتعزز قبضتها كل يوم؛ وأخرى سلطة شكلية للرئيس.
 
وفي يناير 2015 انفجرت الأوضاع عسكريا بين السلطتين، ليغدو الرئيس تحت الإقامة الجبرية محاصرا في منزله بصنعاء من قبل ميليشيات الحوثي وصالح. واستمرت النخب تجول في حوارات عبثية في موفمبيك، حتى تمكن الرئيس من الفرار إلى عدن بعد شهر تقريبا من الحصار المفروض عليه.
 
بدأ الجميع يصحو على واقع سياسي جديد، بعد أن انفصلت السلطتين، إحداهما شرعية في عدن، والأخرى انقلابية في صنعاء. ولم يمر على هذا الوضع سوى شهرين، ليأتي بعدها اجتياح الانقلابيين للجنوب ومغادرة الرئيس نحو عمان وقدوم عاصفة الحزم بقيادة السعودية.
 
 وعند هذه النقطة، يمكن القول أن مسارات فبراير السلمية قد توقفت، لتبدأ مرحلة الدخول في الكفاح المسلح، تقاطعا مع التدخل العسكري العربي، وما زالت حتى يومنا هذا.
 

الخلاصة: 
 
ثورة فبراير، مثل كل الثورات، ليست حدثا ناجزا، يقع فيتحقق دفعة واحدة. إنها حالة تدافع مستمر، وصراع محتدم بين الماضي والحاضر. وما حدث في فبراير كان شرارته الأولى؛ بداية للثورة، ومفتتح للمعركة بين قوى المستقبل ومخلفات زمن الجمود.
 
 وبالطبع كان يمكن للثورة أن تستكمل طريقها بمسارات مختلفة؛ لكن النظام الذي ثارت عليه اختار إجهاض مسار الثورة عبر تحالفاته مع خصوم الجمهورية القدامى الجدد. فأصبحت الثورة تستكمل شروطها الآن، عبر هذا التدافع مع قوى الثورة المضادة وكل مخلفاتهم، وحلفاء الإقليم المرعوبين من الثورة أيضا.
 
خاتمة: لا يمكن القضاء على الثورة كليّا، ولا يمكن العودة لما قبل فبراير، مهما كانت قوة وشراسة الثورات المضادة. وهناك فرق كبير بين مرحلة ما بعد الثورة، ومرحلة ما قبل الثورة. بالطبع، نحن الآن في مرحلة انكسار الثورة أو تذبذبها، لكننا لم نعد إلى مرحلة ما قبل الثورة. وهذا شوط مهم، لا ينبغي إغفاله في أي قراءة تقييمية لمسار الثورة بالكامل.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر