"منارة المحضار".. شموخ منذ عقود وصمود أمام كل المتغيرات المناخية (تقرير خاص)

[ "منارة المحضار" في تريم بمحافظة حضرموت شرق اليمن (يمن شباب نت) ]

تمتزج الحضارة الإسلامية، بعبقرية البناء الحضرمي، فيلتقي الدين والخيال والجمال، ليصنعوا من الطين، تحفة فنية، تناطح السحاب في "منارة المحضار" والتي تعد واحدة من أشهر المعالم الأثرية والجمالية، بمديرية تريم بوادي حضرموت (شرق اليمن) تأسر ناظريك عندما تزور هذه المؤذنة الشهيرة، التي ذاع صيتها عبر الزمن، فتجعلك واقفاً بتفكيرٍ عميق، عن مصمم هذه المئذنة، التي وقفت شامخة طوال عقود زمنية.
 
فالبناء الشامخ لهذه المئذنة، لهو دليل واضح على عبقرية الحضرمي، واتساع مداركه، وتفننه في البناء والتصميم الهندسي المعماري الرائع، والتي لم تتدخل فيه أية وسيلة من الوسائل الحديثة في البناء، بل تغلبت عليه جوانب الإبداع والقوالب التقليدية المحلية الصنع، فأخذ شكلاً جمالياً، وطابعاً أثرياً للمدينة.
 
عامل جذب للزائرين
 
وتُعد منارة المحضار، مقصداً للزوار والباحثين، فجذبت الكثيرين إليها على مر السنين، وخاصة السياح وطلاب العلم، فتبدو وكأنها تحفة جمالية إبداعية، يلتقطوا من أمامها الصور التذكارية، لكن في السنوات الأخيرة، ومع بروز الأزمات في البلاد، تناقص أعداد زوار هذا المعلمٍ الإسلامي والتراثي الشهير في البلاد.
 
وتتسم المئذنة من حيث تصميمها، بشكل هندسي جميل، وهي الأطول في اليمن والعالم، وذات ارتفاع شاهق، المبنية من الطين "اللبن" وكذا الخشب، والمطلية بمادة النورة "الجير"، ولها طوابق سبعة، وسقفت بجذوع النخيل، وتتخذ الشكل المربع، وتتسع في قاعدتها.
 
وتتناقص وتضيق مقاسات أضلاعها، كلما ارتفعت إلى قمتها، حتى يتم مرور شخص واحد فقط، ويوجد بداخلها درج للصعود إلى أعلاها، فتقدّر عدد درجات المنارة من الأسفل إلى الأعلى، بحوالي الـ "152" درج.
 
 وسائل بناء تقليدية
 
ويقول صبري عفيف الباحث التاريخي لـ"يمن شباب نت"، بأن مئذنة المحضار، تعد تحفة معمارية فريدة في العالم، ومعلم من معالم العمارة الطينية التقليدية في حضرموت، وهي رمز لمدينة العلم والعلماء بتريم، وهي كذلك تعد من أشهر المآذن ليس على مستوى حضرموت فقط، وإنما على مستوى اليمن والعالم.
 
وأشار عفيف بأن المنارة ليس لها شبيه في الطول، فاستخدمت في بنائها وسائل تقليدية، فهي تعانق سماء مدينة تريم، بارتفاع 40 متر، وهذه المئذنة مبنية من الطين "اللبن"، والتبن وجذوع النخل، وأعواد شجرة السدر، ولم يدخل في بنائها أي من وسائل البناء الحديثة، كالإسمنت والخرسانة والحديد.
 
باني المنارة
 
هناك جهود بذلت في تصميم المئذنة، جعلها تتميز بشكلها البديع والرائع، فكانت على أيدي المعماري عوض سليمان عفيف وإخوانه، وذلك في العام 1333هـ، الموافق 1914م، على نفقة وإشراف الحبيب العلامة الشاعر أبوبكر بن عبد الرحمن بن شهاب، وقد مر على بنائها أكثر من 100 عام.
 
ويضيف الباحث التاريخي عفيف لـ"يمن شباب نت"، بأن المعماري المعلم عوض سليمان عفيف توفي في العام 1345هـ، ودفن في مقبرة أكدر، وكتب على شاهدة قبره، باني منارة المحضار.
 
وأوضح بأنه أعطيت الأوامر من قبل السادة العلويين، للقائمين على المقبرة، بعدم نبش قبره، وعدم استبداله بآخر، تقديراً له، ولجهوده في بناء هذه المئذنة الشهيرة، وهذا المعلم التراثي وحتى لا يُنسى اسمه ويُطمس من الذاكرة.
 
مراحل البناء
 
 كانت بداية العمل بالمسجد في شهر محرم عام 1331هجرية، وتم الانتهاء من بناء المئذنة والتشطيب للمسجد في شهر رجب 1333هجرية، ويشير عفيف بهذا الخصوص بأن مراحل البناء مرت بثلاثة مراحل، فالمرحلة الأولى بدأت في العام 833 هجرية، وهي مرحلة التأسيس للمسجد، على يد الإمام عمر المحضار بن عبد الرحمن السقاف، ومن هنا جاءت التسمية للمسجد "مسجد المحضار" وكانت مساحة المسجد صغيرة آنذاك، فحوت الحمام الجنوبي "مكان أو كنين الصلاة" وميضأة للوضوء "جابية" وحفرت للمسجد بئر.
 
وتابع عفيف بأن المرحلة الثانية من العمارة شهدت توسيع للمسجد وشمل الحمام الشمالي، وبنيت للمسجد مئذنة مدورة "اسطوانية الشكل"، وتحوّل موقعها اليوم بصندوق للصدقة تتوسط المسجد.
 
وجاءت بعدها المرحلة والعمارة الثالثة والأخيرة، فكانت على يد المعماري عوض سليمان عفيف وإخوانه، خميس وحميد وعبيد، فقد توسع المسجد شرقاً، وتم عمل الضاحية "الجزء المكشوف من المسجد"، وبنيت للمسجد المئذنة الحالية، المربعة الشكل "هرمية"، ذات سبعة طوابق، لتنتهي بغرفة المؤذن.
 
صمود المنارة
 
إن مقاومة البناء الطيني لمئذنة بهذا العلو الشاهق، هو سر بقائها كل هذه السنوات، التي تزيد عن الـ"100" عام.
 
ويؤكد عفيف لـ"يمن شباب نت"، بأن مئذنة المحضار، بنيت من مواد خام محلية، ذات جودة عالية، فتم انتقاء مواد البناء بشكل دقيق، فالمعماري عفيف لا يقبل في بنائه إلا أجود وأقوى أنواع الطين، وهو ما يسمى بـ"الزبر".
 
وأضاف بأن نوعية الأخشاب المستخدمة في بناء المسجد والمئذنة، لا تأكلها الأرض، إذ يتم قطعها في نجم، أو فصل معين من فصول السنة، واستخدم المعلم عفيف ربط البناء وتداخله مع بعضه لأعواد اليعبور، التي تؤدي وظيفة شبكة أسياخ الحديد في الخرسانة المسلحة.
 
وأردف بأن المعلم عفيف قام بحفر أساسات للمنارة، ما يقارب الـ " 10" متر في الأرض، حتى تكون صلبة وقوية، بالإضافة إلى نوعية النورة "الجير"، المستخدمة لطرقة الجدران الطينية من الداخل والخارج، ويتم سباطة النورة التي طليت بها المنارة، بكمية قليلة حتى تكون قوية، فكل هذه العوامل الأساسية والمنتقاة، جعلت من المئذنة تزداد في قوتها وصلابتها وتماسكها، وتحملها لعوامل التعرية الطبيعية، التي تتعرض لها، وكذا مقاومتها للرياح.
 
فمنارة المحضار تعتبر آية وتحفة أثرية على مر السنين، جذبت إليها العديد من الزوار، من مختلف بلدان العالم، لكن في السنوات الأخيرة، وبسبب الأوضاع والأزمات التي طرأت في البلاد، أثر ذلك سلباً على توافد الزائرين والسياح، ورغم كل هذا تقف المنارة، صامدة وشاهدة على ما بناه وخلفه لنا الأجداد، من معلم إسلامي وأثري، مثير للدهشة والتأمل.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر