"صنعاء القديمة".. ما هي تفاصيل وأسرار منازلها الشاهقة؟ (تقرير خاص)

[ صورة عامة لإحدى أحياء مدينة صنعاء القديمة وتظهر المزرعة بجوار المنازل (يمن شباب نت) ]

هل تساءلت يوماً عن تفاصيل الداخلية لمنازل "صنعاء القديمة" الشاهقة، وكيف كان التخطيط الهندسي القديم وما الذي كان يشد اهتمام اليمني في الزمن القديم أثناء بناء منزلة، بتلك الصلابة المتفردة والعبقرية المدهشة في دقة البناء والجمال المعماري اللافت الذي يحتفظ برونقه منذ مئات السنيين.
 
ما إن تدخل من بابها العتيق حتى تشعر برهبة المكان الباذخ بالجمال وعبق التأريخ العظيم لليمني الذي صنع الدهشة في الزمن الغابر وكافح من أجل أن تكون حياته أفضل، وبأرقى المنازل التي توفر له الراحة، حيث اهتم بالألوان والزخرفة وكل التفاصيل الجميلة التي تجلب الراحة في أي منزل.
 
شوارع "صنعاء القديمة" المرصوفة بالحجارة ومنازلها المتقاربة من بعضها بتفاصيلها الجميلة وأزقتها الضيقة تحكي تأريخ حضارة بلاد ضاربة في جذور التأريخ، وتتفاوت طوابق المنازل حيث تبدأ من ثلاثة طوابق، وأعلاها يتكون من تسعة طوابق، بُنيت بهندسة دقيقة وإتقان بديع، جعلها صامده منذ قرون وإلى حد الآن دون أن ينقص من جمالها شيء.
 
تفاصيل كثيرة

وسط المدينة تفاصيل جمالية كثيرة ومتنوعة وما زالت محتفظة بطابعها المعماري الفريد واتقانها الهندسي ولها اسرار وحكايات يصعب على الزائر معرفتها وفك طلاسمها العتيقة، فكل منزل فيها يروى تفاصيل إبداع للإنسان اليمني، وكل حجر منها له تاريخ وتصل أعمارها إلى نحو 700 سنة.

ومن اسرار المنازل الشاهقة في "صنعاء القديمة" استخدام الياجور (أحجار حجمها صغير ولونها أحمر) في البناء لأنها أخف وزناً من بقية أنواع الأحجار مما يسهل بناء طوابق أكثر، ومن مميزاتها اكتساب وخزن الحرارة نهارا بحيث تكون دافئة في الليل، وكذلك استخدام (الجص) والذي يعمل على مقاومة التفتت والتحلل والتجريف بسبب الامطار، وكذلك تغطيه سطوح المنازل بمادة القضاض والجص ليسهل عمليه تصريف المياه من السطوح.
 
استطاع اليمنيون إتقان العمارة والبناء بمواد تقليدية وصنع لوحات فنيه رائعة لم تبهت مع الزمن ولم يستطع البناء الحديث منافسة بريقيها الفريد، وظلت المدينة متمسكة بخصوصيتها تحكي للأجيال عن حضارة وتاريخ وفن.
 
المجلس "واجهة المنزل"
 
يهتم اليمني أثناء بناء منزله بالمجلس الذي يستقبل فيه الضيوف، والذي يجلس فيه ساعات المقيل من بعد تناول وجبة الغداء حتى دخول الليل، غير أن منازل صنعاء القديمة تعطيها مساحة أكبر حيث يكون في طابق مجلس بالإضافة إلى الطابقين الآخرين واللاتي يطلق عليهن (الزهرة، والمفرج، والطيرمانه) بالإضافة إلى "المنظر" والذي يكون في آخر طابق.
 
انعكس اهتمام اليمنيين بالمقيل على التفاصيل والهندسية والتخطيط وسمي المكان الأعلى "المفرج" عبارة عن غرفه في الطابق قبل الأخير، و"المنظر" غرفه أصغر من المفرج وتكون بجانبه، و"الزهرة" او ما تسمى بالطيرمانه هي غرفه صغيره جدا تكون في اخر طابق للبيت وتعلوه وحدها مع السطح.
 
يقول "عبد الله بن علي" وهو أحد الساكنين في صنعاء القديمة "أن أسماء مجالس المقيل مرتبطة باللهجة الصنعانية فمثلا المفرج من الفرجة وتعني التأمل فيما الزهرة تعتبر المكان الأجمل في البيت وأطلق عليها هذا الاسم كتشبيه بالزهرة".
 
وأضاف في حديث لـ "يمن شباب نت" أن سكان صنعاء واليمن بشكل عام يهمهم كثير المجلس كونه مرتبط بساعات الراحة وفيه يتم استقبال الضيوف فمن الضروري أن يكون مطل على مناظر كثيره وفيه النوافذ من كل الجهات بالإضافة إلى الزخارف والتحف بالإضافة إلى الأشجار بالقرب من النوافذ وعادة ما تكون ورود.
 
ويجهز في المجالس بكل مستلزمات الجلسات العامة والمقيل والسمرة كالمدايع والمعاشر والمتافل ومرشات ماء الورد والمباخر والشمعدان (يوضع فيها الشمع للإضاءة) وكلها مصنوعة من النحاس وفيها لمعان ولونها ذهبي.
 
 
الحيوانات والغذاء

كان اليمنيون في الزمن القديم يعتمدون على الزراعة تربية الحيوانات من أجل الحصول على الغذاء والمعيشة حيث يتركون مساحة كبيرة من المنزل لتلك الاحتياجات سواء كانت أغنام او أبقار او ما يخصهن من أعلاف بالإضافة إلى مخازن القمح والحطب لطباخة الطعام وخلال بناء المنزل يتم إفراد مساحة لها.
 
وتتواجد هذه في أسفل المنزل والذي يسمى الدلهيز ويوجد فيه "الإصطبل" وهو مكان الحيوانات ومخازن للأعلاف والحطب، وفي نفس الطابق يوجد "طبقه الاحقاب" وهو مكان صغير ومنخفض الارتفاع يستخدم لخزن الحبوب، حيث تقسم مساحتها الى احواض منفصلة كل حوض منها يسمى حقب، ويتم ما بين 3-5سنوات ترميم جدرانها وارضيتها بالقضاض وذلك لقدرته العالية في عزل الرطوبة والحرارة مما يساعد على حفظ الحبوب لمدة طويلة.
 
كما أن اليمنيين في الزمن القديم يهتمون بالاحتفاظ بالطعام وتبريد الماء في مكان يطلق عليه "بيت الشربة" معد خصيصا لهذه المهمات لأن جميع جهاته مخرمة لدخول الهواء ويقع في الجهة الشمالية ما بين الطيرمانه والسطح لكي يكون الماء قريب من الجالسين في المفرج وقت المقيل.
 
الشبابيك والقمريات والزخارف
 
أهم ما يميز منازل صنعاء القديمة النوافذ الكثيرة والمنقوشة بالزخارف، يحتوي البيت الصنعاني على أكثر من شباك بعضها ياجوريه وبعضها خشبيه لها استخدامات متعددة إما لوضع الماء لتبريده او لمعرفه الزائر للبيت والاستمتاع بمراقبة المارة بالشارع إن كانت كبيره، بالإضافة إلى إطلالتها المتميزة.
 
وتعلو النوافذ عقد نصف دائري من الجبس تسمى (بالقمرية) منقوش عليها رسوم مختلفة من الزجاج المعشق الملون مما يضفي على المكان الداخلي لمسات جمالية تعطي البيت الصنعاني خصوصيه فريدة لا مثيل لها وخاصة من دخول الشمس إلى وسط الغرفة أو المكان الذي يوجد فيه قمريات.
 
كما توجد في المنزل خزائن جداريه لها ابواب خشبيه صغيره تغلق بمفاتيح غالبا ما تكون في زوايا البيت لحفظ الاشياء الهامة مثل الاوراق والنقود، وتكون منقوشة وعليها تفاصيل جمالية بديعة.
 
أمكان مخصصة

ويتواجد في منازل "صنعاء القديمة" أيضاً أماكن مخصصة تهتم بالأبوين (الجد والجدة) وأيضاً المرأة التي تلد لها مكان مخصص، بالإضافة إلى أماكن أخرى تستخدم في أشهر محددة ومناسبات نادرة وأحيانا تراعي فيها تقلب الأجواء في فصول السنة المختلفة وخاصة أيام الشتاء حيث البرد القارس.
 
وتوجد غرفة صغيرة في كل طابق يطلق عليها "الكمة" حيث يتم اختيارها للاستفادة من المساحات المتبقية في الطوابق ومساحتها لا يتجاوز 2 متر وارتفاعها لا يتجاوز متر ونص الى مترين، ولها نافذه واحده صغيره وغالبا ما تستخدم لنوم كبار السن خاصة ايام الشتاء، بالإضافة إلى "المكان العجمي" ويكون بلا نوافذ ويستخدم لتضع المراءة طفلها عند الولادة دون ان يشعر بها سكان البيت، وتقضي به الايام الاولى من الولادة، ويوجد مكان آخر أيضا يسمى "مكان الولاد" يعتلي رأسه مرتفع تجلس فيه المرأة الوالدة لاستقبال النساء يومياً خلال أربعين يوم.
 
ويخصص في المنزل أماكن خاصة لنوم الجد والجدة في أعلى المنزل بجوار المجلس قبل الطابق الأخير ويتوسطهم السطح الذي تشرق عليه الشمس ويكونا متقابلين في الأماكن الصغيرة والمميزة، ومن خلالهم يتم إدارة البيت بالكامل حيث يخضع الأبناء والأحفاد لأوامرهم ويحظون باحترام وتقدير كبير.
 
أماكن خدمية في المنزل
 
في الطابق قبل الأخير يكون هناك سطح يكون نتاج لتراجع الكتل البنائية للطيرمانة نحو الداخل وتستغل هذه للنشاط المنزلي الاسري مثل غسيل الملابس وتجفيفها أو الجلوس فيها حيث توفر خصوصية بجدار ساتر تتوزع فيه فتحات معقوده وظيفتها الأساسية المراقبة والاتصال بالخارج، ويوجد مكان صغير جدا طابق ويعتلي الجدار بحيث يكون مقارب للسقف لا يمكن الطلوع له الا بسلم لا يوجد فيه اي منفذ هواء ويتم استخدامه كمخزن لوضع الملابس.
 
أما الحمامات في منازل صنعاء القديمة فهي تعلو بعضها البعض في كل طابق، ويتم بناءه من الحجر الحبشي ويوجد فيه موقد للفحم مبنى من الجص مثبت بالأرضية يستخدم لتدفئه الحمام والماء والتهيئة للاستحمام ويجاوره حوض مخصص للاستحمام يرتفع عن الأرضية، كل تلك التفاصيل وجدت الآن بتفاصيل حديثة لكن اليمني سبق وان فكر بها قبل مئات السنين.
 
وتلك التفاصيل الإجمالية لمنازل صنعاء القديمة الشاهقة، حصل لغالبيتها تحديث من الداخل في المهام، حيث تحولت الأماكن التي كانت للأغنام والحطب والحبوب إلى مخازن للخردة الخاصة بالمنزل، ويتوزع مالكي المنازل في كل شقة تسكن عائلة، بعكس ما كان في السابق، لكن الثابت والذي لم يتغير هي تلك المنازل الشامخة التي تروي حضارة بلد عريق أنهكته الحروب وبقي محتفظاً بذاته الشامخة في مواجهة كل الأوجاع.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر