"حلمي الورافي" ..حلم الثورة المُقعد على كرسي الخذلان في "إب" (بورتريه)

[ "حلمي الورافي".. أحد جرحى ثورة فبراير 2011 في محافظة إب على كرسيه المتحرك ]

 
مرت سبع سنوات على خروج "حلمي الورافي"، ضمن عشرات الآلاف من اليمنيين، في الثورة الشعبية السلمية (فبراير 2011) لإسقاط نظام "صالح" العائلي الفساد، أملاً بإحلال نظام بديل راشد، يقوم على العدالة والمواطنة المتساوية، يكون للشباب فيه دور فاعل.
 
لم يتبادر إلى خلد "حلمي" يوما، بينما كان يجوب شوارع وميادين الثورة، أن الأحلام التي كانت تراوده لمستقبل ما بعد إسقاط النظام، ستتبخر ذات يوم ويحل محلها حلم واحد فقط؛ أصبح هو الأكثر أهمية على الصعيد الشخصي: استعادة قدرته على الوقوف مجددا على قدميه ليخرج إلى الشارع مرة أخرى.
 
لسبع سنوات عجاف، يتشابه حال "حلمي الورافي" مع الثورة. فكلاهما استقر به الحال على كرسي متحرك؛ الأول أقعدته رصاصات الانتقام الوحشي من جنود النظام السابق؛ والثانية أقعدتها رصاصات الغدر ومؤامرات المتربصين.
 

 
بداية قصة المعاناة

بدأت قصة "حلمي الورافي" في جمعة الحسم بتأريخ 13 مايو 2011م، حين أطلق جنود الحرس الجمهوري، الموالون للرئيس اليمني السابق "علي عبدالله صالح"، النار على الثوار المصلين في ساحة الدائري، وهي الحادثة التي سقط فيها "حلمي" جريحاً وسقطت معه كل أحلامه التي رسمها في مخيلته لمستقبل أفضل ينعم به وجميع شباب الوطن.
 
أصيب "حلمي" بعيارات نارية في العمود الفقري ما سبب له أخطار جسيمة في الحبل الشوكي وفقرات العمود، أجريت له عدة عمليات استكشافية في الصدر والبطن وعانى من مضاعفات أدت إلى حدوث مشاكل في الحاجز الحاجب والرئة والأمعاء.
 
في صنعاء والرياض، تم معالجة المضاعفات وتركت الإصابة الرئيسية، نقل بعد ذلك إلى الأردن، ونصح هناك بالسفر إلى ألمانيا أو كوبا، بسبب عجز الأطباء من إيجاد حل له بعد تكون تكلسات في الحوض وحول الفقرات، وطول أمد إصابة الحبل الشوكي، الذي سبب له فقدان الحركة في الأطراف السفلية.
 
عاد "حلمي" إلى الوطن واستكمل العلاج الطبيعي في أحد المراكز الطبية، لكنه تُرك لاحقاً من المكونات الثورية والسلطات التي تشكلت عقب الثورة، لتزداد المعاناة أكثر بعد دخول الثورة في فلك الأمواج المتلاطمة للثورة المضادة، حيث نُسيَّ حلمي على كرسيه يواجه مصيره لوحده، فيما انشغلت الثورة، التي أصيب لأجلها، في مواجهة مصيرها بين أمواج ومحيطات المؤامرات المتكالبة عليها من كل حدب وصوب، ما أنسى قادتها وجع "حلمي" وأمله، لتبقى فقط خيبة أمل لم يكن يتمنى بلوغها.
 
وعود وخذلان

بعد عودة "حلمي" من الخارج انتظر المبادرة من المكونات الثورية لترتيب نقله وتسفيره إلى إحدى الدول المقترحة من قبل الأطباء في الأردن. وتحت ضغوط الناشطين المتفاعلين معه، حصل "حلمي" على وعود كثيرة، لكنها ظلت كذلك دون أن يتحقق واحد منها.
 
انتظر كثيرا، وتحمل آلامه مع صمته وصبره أكثر. حتى إذا ماحلّت الذكرى الثالثة للثورة (أي قبل أربع سنوات)، ساقت معها آمالا جديدة، إذ حلت معها رئيسة مجلس شباب الثورة والحائزة على جائزة نوبل للسلام "توكل كرمان"، كضيف شرف على محافظة إب.
 
زارته "توكل" في منزله ووعدته بحل مشكلته بحماس، تهللت معه أسارير "حلمي" مجددا، واستقبل شباب الثورة تلك الزيارة والوعود بالإشادة والترحيب.


 
لكن (ما يشبه) الأمل الأخير الذي ساقته "توكل" معها لإنتشال "حلمي" من كرسيه، تحول لاحقا إلى (ما يشبه) المسمار الأخير لتثبيته على مقعده المتحرك، حيث لا أمل بعده في أمل آخر للفكاك من هذا المصير.  
 
لأسباب غير معلومة، تبخرت تلك الوعود كسابقاتها، وبقي "حلمي" قعيدا، يجثم على أوجاعه في كرسي الانتظار، حتى ولجت البلاد في بحرٍ لجي وظلمات الانقلاب والحرب والتشرد، فغادر الجميع بحثا عن السلامة والأمن، وسلّم "حلمي" أمره إلى الله.
 
ثبات وصبر

من يعرف "حلمي"، يعرف أنه لم يكن نادماً البتة على خروجه إلى الشارع مع سراة الثورة للمطالبة برحيل أسوأ حقبة حكم عرفتها اليمن. ولو أن عجلة الزمان عادت إلى الوراء، فلن يتخذ قرارا أخر غير القرار الذي اتخذه قبل سبع سنوات من الأن. كما أنه لو قُدِّرَ له التعافي والشفاء من إصابته الدائمة، فلن يتردد لحظة عن إكمال مشوار نضاله حتى تحقق الثورة كل أهدافها.
 
هذا ما يؤكده كل من عايشه ومن يعرفه، حتى برغم أن تلك الآلام التي تركها الخذلان، كما يؤكد مقربون منه، كان لها وقعٌ أقسى وأشد من كل ألآم الجسد التي احكمت على ما تبقى من شبابه.
 
تحمل "حلمي" آلامه وأحزانه وصبر كثيراً، وما زال، رغم العروض التي انهالت عليه من أطراف أخرى، على علاقة بالنظام الذي ثار عليه، في محاولة منهم لاستخدام معاناته كمادة دسمة في وسائل الإعلام للنيل من الثورة ومكوناتها ورموزها، مقابل التكفل بعلاجه. لكنه رفض ذلك وتحامل على كل أوجاعه ليبقى وفياً لأحلام وأهداف الثورة الشعبية.
 
خذلان الجميع ونسيانهم، لم يشكلا له دافعا للانتقام، بقدر ما عزز ذلك إيمانه بالثورة وتمسكه بها. وكان للأقربين وشباب الثورة والناشطين دوراُ في ثباته وتساميه على الجراح وتعافيه من آلامه النفسية التي خلفها ذلك الخذلان والنسيان.
 
حياة بين وجعين..

"التماسك والصبر اللامحدود، مع كل ذلك الشموخ، مزايا تجلت في شخصية العميد حلمي الورافي..". والسبب الرئيسي أنه أحتسب أجره من الله فقط..". يقول إبراهيم عسقين، أحد شباب الثورة، واصفا زميله وابن حارته.  
 
ويضيف، مستدركا: "ذلك أن خروجه وتضحيته- مثل الكثيرين، وبينهم من ضحوا بأرواحهم واستشهدوا- لم يكن وراءه أي مكسب ذاتي يناله، وإنما كان الهدف من ذلك، هو الأمل الذي خرج من أجله كل الشرفاء في حياة أفضل وأجمل لكل اليمنيين على السواء".
 
اليوم، وبعد سبع سنوات، إذ يحتفي ثوار اليمن بالذكرى السابعة للثورة، أرتدى "حلمي" أجمل ما لديه محاولا أن يظهر في عيده الوحيد بأبهى صوره، وإن من على كرسيه المتحرك؛ متناسيا كل جراحاته الجسدية والنفسية، على أمل- هذه المرة ليس بوعد آخر من أحد- بل ربما فقط أن يرن هاتفه ليتلقى تهنئة ثورية، من أحد أولئك الذين قذفت بهم الثورة إلى الأعلى.. أو حتى للسؤال والاطمئنان عليه فقط..!
 
مر الأسبوع الأول والثاني على الذكرى.. ولا أحد..!!!

نظر إلى أسفل جسده المشلول، وفي إحدى قدميه تبدت له صورة الجنود لحظة أن أطلقوا الرصاص عليه؛ وفي الأخرى بدأت تتضح أكثر ملامح صور أولئك القادة الثوريين من الذين لهثوا وراء المناصب والأوسمة الصماء وانسحبوا بها إلى الرصيف، منسلين بعيدا عن شوارع الثورة..

 رفع رأسه بشموخ، ارتسمت على محياه ابتسامة ساخرة، وقال في قرارة نفسه: لقد انتصرت عليكم جميعا، وبقيت صامداً.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر