بين تقهقر وانتهاء الدول


صلاح م. إسماعيل


يمكن القول إن هناك دول تقوى و تضعف و بين الصعود و الانحدار تظل محافظة على شكلها و هويتها و كثير من ملامحها، بينما هناك دول تظهر من العدم ثم تختفي من الوجود إلا في كتب التاريخ.
 
هناك فرق بين انتهاء و اختفاء دولة من الخارطة و بين تراجعها أو انحدارها من القمة لصالح دول صاعدة أخرى في سلم القوة و النفوذ العالمي، فتراجع بريطانيا في القرن الماضي لم يعن انتهاءها و سقوط الاتحاد السوفيتي أضعف روسيا و لم يعن النهاية.
 
انتهاء الدول يعني تغير صفتها و وضعها القانوني و السياسي و خريطتها كأن تصبح جزءا من دول أخرى، و هذا لم يحدث في التاريخ الحديث إلا نادراً، فقد شهد ولادة دول لا انتهاء دول، أو إعادة توحد دوله كجنوب و شمال اليمن، و غرب و شرق ألمانيا. و كانت إعادة التوحد على شكل مفاوضات و اتفاقات و ليس بالقوة. بالنسبة لألمانيا كان الأمر أقرب إلى الضم، ألمانيا الغربية ضمت ألمانيا الشرقية، التي فصلت بفعل الاتحاد السوفيتي و ظلت الشرقية أقرب طوال عقود للنموذج الروسي اقتصاديا و سياسيا منها إلى الغربية التي اذابت الولايات الشرقية فيها اقتصاديا و سياسيا فيما بعد، 1990.
 
هنا يمكن القول أن دولة ألمانيا الشرقية هي التي انتهت ككيان مفتعل في الجسد الألماني الكبير الذي ظل ممثلاً في ألمانيا الغربية.
 
انقسام الهند إلى الهند و باكستان و بنجلادش لا يعني انتهاء الهند.
 
الدول ذات الحضارة العريقة و الثروة البشرية الكبيرة من الصعب القول أنها معرضة للانتهاء، و إن كانت معرضة للمرور بمراحل ضعف و تراجع أو حتى احتلال و استقطاع من أراضيها أو انفصال سياسي كحال الكوريتين أو السودان و جنوبه أو ألمانيا.
 
ماذا عن الدول أو الدويلات التي انشئت نتيجة الاستعمار أو الاحتلال دون أن يكون لها جذور تاريخية أو شعب بهوية متماسكة و عدد سكان مرتفع؟
 
هذه الدول هي المعرضة للانتهاء حقيقة لأن ما هو اقتصادي كعامل قوة لها معرض للتغير و التبدل، و لأن عوامل البقاء و الاستمرارية فيها ضعيفة و يظل خطر ضمها من قبل دول جارة أكبر، ترى أن هذه الدول "الطارئة" كانت جزء منها و أن الاستعمار هو من فرض تقسيمها. فالصين، مثلا، استعادت هونكونغ 1997، و لا تقبل أبدا المناقشة حول تبعية تايوان لها. الهند مازالت ترى أن انفصال باكستان و بنجلادش مؤامرة استعمارية و مازالت تعتبرهما جزءا منها، على الأقل في الخطاب السياسي للأحزاب القومية الهندية.
 
عربيا، لم تكن حرب الخليج الثانية (غزو صدام للكويت 1990)، إلا تعبيرا عن هذه النزعة و أيضا الخطر الذي يواجه الدول المفتعلة أو حديثة الظهور. و هذا ينطبق على السعودية التي تتربص بدورها بالدول الصغيرة المحيطة بها. عمان أيضا، فيها نخبة تسمي الإمارات "ساحل عمان" باعتبارها كانت جزءا منها. سوريا الأسد الأب تعاملت مع لبنان كجزء منها. عندما اتيحت الفرصة كان الجيش و المخابرات السورية ذات المتحكم في مرحلة تاريخية معينة قبل أن تجد رفضا من قبل اللبنانيين و يتراجع دورها تدريجيا. لابد أن العقل السياسي السوري الباطن كان يعتبر لبنان جزء من سوريا و يتصرف وفق ذلك مع وجود أمور تردعه من التصريح.
 
مع أني اعارض ما فعله صدام بغزو الكويت و محاولة ضمها بالقوة لكن نزعة الضم واقع سياسي في عالم اليوم مع وجود أمور تردع دول كبيرة من ضم دول صغيرة -كانت جزء منها- بالقوة خوفا من الأمم المتحدة و مجلس الأمن و الدول الكبرى. لكن في عالم متغير من يدري كيف سيكون حال الأمم المتحدة بعد ثلاثين عاما مثلا، و هل ستكون الدول الكبرى اليوم هي نفسها بعد 3 عقود!
 
لنفترض أن بعد عقدين تصبح الصين هي القوة الاقتصادية و العسكرية الأكبر في العالم. و تقوم بضم تايوان بالقوة، فمن سيمنعها؟
 
أيضا، تقوم دول أخرى بضم دول جارة -كانت جزء منها- إليها، مستغلة أن المجتمع الدولي بقياداته الجديدة على رأسه الصين لم يعد يكترث بالأمر و لا يمانعه.
 
يمكن القول أن الدول التي ظهرت حديثا هي المعرضة للاختفاء مستقبلا.

ربما في العقود القادمة لن نشهد انفصالات سياسية بقدر ما سنشهد ضم دول لدول أخرى.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر