تاريخ الضوء في القرية


سلمان الحميدي

 كنا نستضيء بأضوية الفوانيس التي تعمل بالكيروسين، يقال بأن الكيروسين هو الاسم العلمي للصليط، واسم الصليط "جاز" حسب ما هو مكتوب على الطرمبا المنفردة عن صف طرمبات البترول والديزل في محطة المشتقات النفطية،  يبدو أن لإزاحة ماكينة الصليط دافعاً عنصرياً أو طبقياً إذا لم نعرف السبب العلمي لذلك حتى الآن!.
 
كانت الفوانيس تشعل في الأماكن الرئيسية في المنازل، الدِّكاك أو الصالات أو المجالس، أما الضوء الاحتياطي والثانوي فكانت القماقم والسرج.
 
في رمضان، كانت بعض المنازل تتزين بضوء ساطع تنظمه الفتائل المشدودة إلى رؤوس زجاجية مركَّبة فوق ماصورة هي الأخرى موصلة إلى أسطوانة الغاز، كنا نسميه "إتريك غاز"، أما التلفاز العادي، بالأبيض والأسود  فقد كنا نوصله إلى بطارية منزوعة من إحدى السيارات.
 
 في رمضانات تلك الفترة، كنا مع الضوء نعاني إذا اخترقت فراشة أو خنفساء الفتيلة المحترقة نظراً لبعد الدكان الذي يوفر الفتائل، ومع التلفاز نعاني إذا فرغت البطارية من الشحن، لأن تعبئتها كان يستدعي السفر إلى المدينة.
 
بدأ بعض الناس يشترون الأسلاك واللمبات لإضاءة منازلهم من مولد اليانمار/ 3 كيلو الذي يشتغل في رمضان فقط، وبقية أيام السنة يستعيد الفانوس والسراج مجدهما، وتزداد حظوة طرمبا الصليط بإقبال الزبائن القرويين.
 
عندما وصلت كهرباء الدولة إلى القرية، استغنينا تدريجياً عن الفوانيس والسراجات، ثم هجرنا الطرمبا المعزولة عن بقية مكائن المحطة التي تزود ملّاك المراكب المختلفة بالديزل والبترول. لم يصمد ضوء الحكومة كثيراً في قرانا، إذ اندلعت الحرب بين اليمنيين ومليشيا الحوثي، فانطفأ ضوء القرية..
 
عشنا مع الضوء مرحلة انتقالية متعبة، وباءت كل محاولاتنا بالعودة إلى الفوانيس والسراجات بالفشل، إذ اكتشفنا أن الطرمبا المعزولة التي كانت تزودنا بالصليط، لم يعد خزانها يمتلئ بالكيروسين، لقد صار يمتلئ بالديزل، والديزل يجعل ذبالات الفوانيس تصدر لنا دخاناً أكثر من ضوء اللهب!.
 
لم تكن المحطة الأقرب لنا وحدها من تخلت عن تزويد خزاناتها بالكيروسين، المحطات الأخرى أيضاً فعلت ذلك.. تعايشنا مع أضوية الفوانيس بالديزل، واكتسبت صدورنا مناعة تعاملت معها أدخنة مكافحة الشغب وبارود القنابل..
 
لا تقلقوا إذا سمعتموني أكح.. من تنشق ضوء الفانوس ودخانه أثناء مذاكرة دروسه أو قراءة كتب والده فلا قلق عليه من ناحية الرئة!.
*
بدأت المصابيح الصينية تغزو البلاد شيئاً فشيئاً، فاستعمل أبناء القرى هذه المصابيح والكشافات كبدائل لفوانيس وسراجات الديزل.
 
بعدها وصلت المنظومة الشمسية كحل بديل لإنتاج الطاقة: الضوء من الشمس، والكهرباء من البطاريات..
 
ومنذ سنوات والضوء الخافت صامد على الألواح ذوي الزرقة المزججة.. غير أننا نعاني من البطاريات..
 
خلال هذه الفترة، تشكلت عند والدي قناعة بأن عمر أي بطارية لا يزيد عن سنة: لا يجدي معها تغيير الأسيت، أو إنعاشها بالكهرباء، أو تغسيلها بالملح الإنجليزي، أو تدعيمها بألواح إضافية، أو ضبطها بجهاز منظم..
 
فعلت كل شيء ولكن بشكل مستقل عن الآخر، كي أحقق المفاجآة لأبي، ولكني فشلت..
 
عندما انتقلت إلى المدينة، اشتريت كل شيء يطيل عمر البطارية، وحين بدأت تضعف في نهاية السنة، كنت أزاور وأجلس مع نخبويين وأكاديمين وأناس منظمين حياتهم على أكمل وجه، وعندما كانوا يسترسلون في أحاديثهم عن الموضوعات المهمة، كنت أقاطعهم: كيف حقك البطارية.. كم تعيش؟ وهكذا تدخل مشكلتي مع الضوء خضم مشاكلهم الاستراتيجية.
 
لقد أجمعت كل الآراء، وأشارت كل المقترحات، على أن أشتري نوع من البطاريات الجل/ الصم الأصلية، بالإضافة إلى تزويد لوحِ جمب اللوح، كي يطول عمر البطارية، ولا أريده إلا أن يتجاوز السنة كي يتراجع أبي عن قناعته..
 
وبالفعل، اشتريت بطارية أصلية بسعر مضاعف، واشتريت لوحاً لتعضيد اللوح السابق، وكانت المفاجأة! بعد أسبوعين بدأ الضوء يضعف.
 
أعدتها لمحل الإلكترونيات، فتقبل عودتها بروح رياضية، وأعطاني من المخزن بطارية من نفس النوعية في رمضان الفائت، والحمدلله، بعد عشرة أشهر فقط، لا تأتي الساعة العاشرة مساءً إلا ونحن نمشي في الضباب، الضوء موجود ولكن الرؤية معتمة!.
 
اقتنعت بصواب قناعة أبي: شل لك بطارية الحاصل..
 
ومع هذه القناعة، واحتفال الأطفال بالفوانيس المزيفة استقبالا لرمضان، أفكر بشراء فانوس حقيقي، وحين ذهبت لأستفسر في المحطة القريبة عن الكيروسين/ الصليط، قال لي العامل صغير السن، أنه لا يعرف عما أتحدث؟. أشرت له إلى الطرمبا المعزولة، عن خزانها بماذا يزود الزبائن؟ لماذا هي معزولة عن أخواتها المخصصة للديزل والبترول؟ فقال: غاز.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر