خرج اليمنيون هذه المرّة، في ذكراها الستين، في كل قرية ومديرية ومدينة، وعلى امتداد جغرافيا بلدهم، وخصوصا التي ترزح تحت سلطة الإنقلاب المليشيوي الحوثي الطائفي، وفي القلب منها العاصمة صنعاء. خرج اليمنيون لأول مرة صغارا وكباراً احتفاءً بالذكرى الستين لثورة الـ26 من سبتمبر 1962، في مشهد وطني يمني عفوي أسطوري مهيب، وكأنهم لا يزالون يحتفلون بالذكرى الأولى لثورة 26 سبتمبر الخالدة، وليس الستين. 

  

ما الذي دفع اليمنيين، هذه المرّة، لكل هذا الخروج وهذا الاحتفاء، المبالغ فيه بحسب بعضهم، وكأنهم لأول مرة يحتفلون بذكرى هذه الثورة التي مضى على قيامها أكثر من نصف قرن، ولماذا تحدّى اليمنيون كل مخاوفهم المفروضة، وكسروا حاجز الخوف للتعبير بأعلى أصواتهم عن أن ثورة 26 سبتمبر هي ثورتهم الأم التي لا ثورة بعدها، ما دلالة كل هذا الإجماع الشعبي حول هذه الثورة في الداخل والخارج. 

  

  

لا جدال في أن ثورة 26 سبتمبر كانت مفصلية في تاريخ اليمن المعاصر، وأنها اليوم الذي ولد فيه اليمن من جديد، اليمن الذي نعرفه اليوم، بهويته الوطنية الجمهورية، وأن هذه الثورة الخالدة لا يمكن لأحد، كائنا من كان، أن يتجاوزها ويقفز فوقها وكأنها لم تكن، فهي الثورة الأم التي بفضلها عرف اليمنيون مكانهم تحت الشمس جيدا كأمة لها جذورها الضاربة عبر التاريخ، أمة حاول الكهنة الإماميون طويلا ألا تُبصر النور، وأن تظلّ ترزح تحت نير الظلم والقهر والتخلف والفقر والجهل والمرض. 

  

 خروج اليمنيين بهذا الشكل من الاحتفاء الكبير ليس سوى التعبير الأوضح عن رفضهم التام كل هذا الواقع المفروض عليهم اليوم قسراً، الواقع المليشياوي الذي يتهدّد هويتهم وجمهوريتهم وكرامتهم وحرياتهم، هذا الواقع الذي تحاول المليشيات الحوثية الانقلابية الطائفية أن تفرضه، ومن خلال ادّعاء احتفائها هي أيضا بهذه المناسبة، رغم أن لها مناسبة سوداء تحتفل بها بمناسبة انقلابها المشؤوم في 21 سبتمبر/ أيلول 2014. لكن هذه المليشيات، على الرغم من ذلك كله، لم تستطع أن تتجاوز سطوة وهيبة حضور ثورة الـ26 من سبتمبر، في ذاكرة اليمنيين، اليوم الذي يعتبر حدثا فارقا ومفصلياً في تاريخ اليمنيين، لما ترتّب عليه من خروج اليمن من قمقم الكهنوت وجاهلية الإمامة إلى فضاء الجمهورية وآفاقها الرحبة بالحرية والكرامة والعدالة والمساواة، الجمهورية التي مثلت نقطة تحوّل تاريخية في حياة اليمنيين، باعتبارها يوما تاريخيا مشهودا. لم يكن اليمنيون يعون شيئا عن ذواتهم وأنفسهم إلا من خلال ما أحدثته هذه الثورة، وأثرها في تشكيل هوية اليمن الوطنية وتياراتها الثقافية والسياسية المختلفة يسارا ويمينا. 

  

كان الاحتفاء رسالة اليمنيين التي أرادوا من خلالها أن يوصلوا أصواتهم إلى الجميع في الداخل والخارج، أن ثورة 26 سبتمبر لم تعد مجرد ذكرى ثورة في الماضي، وإنما أصبحت بمثابة مقدّس وطني من مقدّساتهم الوطنية الأخرى، كالجمهورية والوحدة والديمقراطية، هذه المقدّسات الوطنية الكبرى التي ناضل من أجلها اليمنيون طويلا. 

  

وهكذا اندفع الناس بكل هذه العفوية، وبدون أي توجيه أو تشجيع من أي طرف، بل كان اندفاعهم ذاتيا تلقائيا وطنيا تمليه تهديدات الهوية الوطنية الراهنة، تلك التهديدات التي تمثلها اليوم عودة دويلات الطوائف والمذاهب ودويلات ما قبل الدولة الوطنية، ممثلة بعودة الإمامة الزيدية الهاشمية، وبدعم وإسناد إيرانيين واضحين، كما هي عودة دويلات السلطانات والمشيخات جنوباً، وكل هذه مشاريع ما قبل الدولة الوطنية، دولة الهوية الوطنية الواحدة. 

  

ما لا يدركه كثيرون من الأشقاء العرب، عن فكرة ثورة 26 سبتمبر 1962، أن هذه الثورة لم تكن مجرّد ثورة مسلحة ضد نظام إمامي متخلف، بقدر ما كانت ثورة فكرية ضد واحد من أسوأ الأنظمة الاستبدادية الكهنوتية في التاريخ، فالإمامة نظام استبدادي يستند إلى نظرية مذهبية تؤمن بها فرقة الزيدية، باعتبار أن لمن يسمّون أنفسهم آل البيت حقاً إلهياً في الحكم، لا ينازعهم عليه أحد، وأن هذا الحق منصوصٌ عليه في أدبياتهم المذهبية، فالإمامة التي ثار ضدها اليمنيون لم يصلوا إلى مرحلة الثورة المسلحة ضدها إلا بعد أن هدّوا هذه الفكرة من جذورها، من خلال ضرب سندها الفكري والفقهي المتهافت الذي تستند إليه جماعتهم، وهي فكرة آل البيت، هذا الفكرة التي تستبطن نظرية سياسية في الحكم، ولا يسندها أي سند تاريخي، فضلا عن أي سند فقهي أو أصولي. 

  

  

عظمة ثورة 26 سبتمبر في أنها لم تكن مجرد رغبة وإرادة عسكرية لكسر هذه الصنمية، وإنما كانت ثورة بمسار فكري وثقافي وتجديدي واضح، بدأ مع الأئمة المجدّدين الكبار الأوائل من أبو محمد الحسن الهمداني في القرن الهجري الثالث، وكل من تبعه من أئمة الاجتهاد والتجديد في المدرسة اليمنية، من محمد بن إبراهيم الوزير وأحمد بن حسن الجلال وصالح المقبلي وبعده ابن الإمير الصنعاني والشوكاني وكل سلسلة المجتهدون اليمنيين الأوائل الذين نسفوا فكرة الأفضلية العرقية التي تستند إليها فكرة آل البيت التي هي بمثابة الغطاء الديني لهذا المشروع الكهنوتي السلالي المتخلف. 

  

وهكذا يرى باحثون كثيرون اليوم أن عظمة ثورة 26 سبتمبر تكمن في استنادها إلى أساس فكري ثقافي في جذورها باعتبارها امتدادا فكريا لمدرسة الاجتهاد والتجديد اليمنية، وأن هذه الثورة لم تكن مجرد رغبة سياسية للخلاص من فكرة الإمامة عسكرياً، وإنما أيضا نسفها فكريا وثقافيا، ولهذا نجحت هذه الثورة، التي يرى بعضهم اليوم أنها أيضا كانت بمثابة استعادة اليمنيين فكرة الإسلام المختطف من الإمامة الزيدية وخرافة الاصطفاء العرقي. ولهذا لم يكن غريبا، هذا الاحتفاء والخروج اليمني الكبير للاحتفاء بها في ذكراها الستين، هذا الخروج الذي يعني أن اليمنيين، مهما أصابهم من الضعف والتراجع، لن ينسوا مطلقا أعظم ثورة حققها أباؤهم الأوائل، أخرجتهم من أسر الجهل والفقر والمرض إلى آفاق الجمهورية والحرية والكرامة، كما هي رسالة أيضا إلى الخارج الذي قد يتوهم بعضهم فيه أنه يمكنهم أن يتجاوزوا هذا المقدّس الوطني الكبير لدى اليمنيين، فيما لا يمكن أن يحلّ السلام في اليمن إلا بالعودة إلى أهداف ثورة 26 سبتمبر وثوابتها، وهي الخالدة في أذهان اليمنيين وعقولهم وأرواحهم جميعا. 

 

*نقلاً عن العربي الجديد 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر