دم الأطفال


سلمان الحميدي

 مثل هذا اليوم من الأسبوع الفائت، كنت في المستشفى، أمامي الأطفال الجرحى الذين أصيبوا بشظايا قذيفة حوثية. كانت المشاعر مضطربة، أن ترى دم غزير يتدفق من عدد من الأشخاص، أن ترى دم الأطفال ينسكب في رواق المستشفى، غرفة الطوارئ، غرفة المجارحة. وأن تتوقف في غرفة الانتظار مع طفلين مصابين، في انتظار دورهما لدخول غرفة العمليات التي بداخلها طفلين مصابين أيضًا. يا للمصيبة.
 
كان البراء مراد، 7 سنوات، في غرفة العمليات؛ كان والده ومجموعة من الرجال جوار الغرفة. نحن كنا في غرفة الانتظار، ننتظر دخول بنت أختي، ملاك أنس، 8 سنوات، إلى غرفة العمليات. دور ملاك بعد دور البراء، هذا ما جعلنا قريبين للاطلاع على تفاصيل حالته أولاً بأول إضافة إلى التجاور في الحي ومكان الإصابة والعدو الواحد. كانت إصابته خطيرة. خالتي أخت والدتي كانت معنا، وهي أول من خرجت لترى الأطفال ودمهم المسكوب في الشارع. كان والد البراء مستعداً أن يفتدي طفله بروحه، حتى أنه كان يقول أنه سيبيع منزله ويعالجه، سمعت بتحركات لتجهيز جوازات السفر.
 
زار مراد، والد البراء، غرفتنا، متفقداً ملاك أنس، ومحمد أنس "عمره سنة وعشرة أشهر"، وقَبَّلهم. كان الأطباء في غرفة العمليات يجتهدون في لملمة العظم واللحم المتهشم والعروق المقطعة لطفله. لم تتوقف العملية لساعات. كانت خالتي تقول أنه بحاجة لمعجزة، لكننا جميعاً لم نفقد الأمل بالله كنا ندعو له.
 
جرى استقدام أشهر طبيب أعصاب في تعز حالياً، إذا لم يكن في اليمن كما سمعت، الدكتور عارف المخلافي. بعد سبع ساعات وأربعين دقيقة، جاء خبراً مفرحاً، النجاح بربط أحد الأوردة من الساق إلى الجزء المتدلي من قدم الطفل. كان أقارب مراد خارج الغرفة وخارج المستشفى فرحين. سمعت النبأ من أحدهم. عدت إلى الغرفة أخبر خالتي والنسوة الساهرات في انتظار دخول ملاك غرفة العمليات. تهللت وجوههن بالفرحة للبراء ولهجت ألسنتهن بالشكر لله. خالتي قالت ما حدث معجزة وشكرت الله. بدأنا نتحدث عن لطف الله وعنايته بالأطفال عندما ألقت مليشيا الحوثي القذيفة: كانت مجزرة. الحمدلله أننا لم نفقد طفلاً. لن نفقد الأمل وإن كنا أوصالاً. عِرْق يمكن أن يبث الحياة في الأوصال الممزقة.
 
ذهبت النسوة لرؤية البراء عند خروجه من غرفة العمليات، للحظات فقط أثناء نقله إلى العناية المركزة. كان وجهه أصفراً، قالت خالتي: فقد الكثير من الدم، وكانت حزينة لأجله.
 
في ساعة متأخرة من الليل خرجت ملاك من غرفة العمليات، استخرج الأطباء شظية بحجم رصاصة من رقبة الطفلة، كان الجميع مستغرباً. بعد وقت عصيب اختلط فيه الدم والصراخ، الترقب والتعب، استلقى أنس والد الطفلين  على أرضية الغرفة منهكاً، وفي زاوية أخرى تمددت اثنتان من خالاتي، كان الجميع مفجوعاً، بقيت ساهراً لأراقب المغذية.
 
بعد ساعات، نظرت أم ملاك للهاتف، ثم سألتني بصوت واهن: البراء مات؟.
 
خالتي نهضت على الفور، أكدت لهن خبر نجاح العملية. البراء سيعود إلى الحياة راكضاً على قدميه. قالت لي أم ملاك أن واحدة من صديقاتها أخبرتها بذلك. كنت متشبثاً بالأمل، بالحياة، بالوريد الواصل بين القدم والساق، دون اعتبار للشظايا الصغيرة، نحن في المستشفى أدرى بالخبر الصحيح من الذين هم خارج المستشفى.
 
قالت خالتي المفجوعة: اتأكد.
 
خرجت من غرفة الانتظار، سمعت صوت نحيب قادم من الدرج، نزلت متجهاً إلى قسم العناية المركزة، رأيت المنتحب جالساً في الدرجة الأولى من طابق العناية المركزة، نظرت إليه، لم يكن والد البراء الذي رأيته أثناء زيارته لملاك ومحمد، شعرت قليلا بالطمأنينة: البراء على قيد الحياة.
 
أمام باب العناية، كان هناك جندي يقوم بحراسة المتعبين والمهدودين، تقدمت إليه لأستفسره، نظر إليّ بصمت. فهمت  أنه ممنوع من الحديث عن أسرار العناية المركزة،  كررت عليه السؤال، أجاب وهو يدلني على صوت المنتحب الحزين: اسأل خاله؟.
 
كانت المنتحب خال البراء. لم أسأله ولم أعد إلى الغرفة لأنقل النبأ الحزين، لم أقتل الأمل، وأقطع الطريق أمام عناية الله التي حفظت 12 طفلاً سقطت بينهم قذيفة حوثية وهم يلعبون، لم أفصح أنهم  صاروا 11، لم أشعر بنفسي إلا وأنا في البيت، لا أعرف كيف مشيت على قدمي محملاً بالفاجعة والسهر والحزن المباغت.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر