الحصار الذي لا يتحدث عنه أحد


سلمان الحميدي

 تَبقَّى أربعة أيام فقط لتكتمل سنة هجرية منذ وصولي إلى المدينة وبقائي فيها..
سنة عشت فيها تجارب، وجلست مع أناس، واستمعت إلى تفاصيل..
سنة، التقيت فيها ببعض أصدقائي الذين انقطعت عنهم منذ ست سنوات بسبب الحرب
سنة تعرفت فيها على أصدقاء جدد ورجال صادقين، منهم من استشهد ومنهم من جُرِح ومنهم من يغالب ظروف الحياة..
 
عشت في القرية لست سنوات، لم أتمكن من الذهاب إلى مكان، اعتذرت عن فرص عمل، وتكبدت غصص رحيل أحبة دون وداع، من بينهم أخي محمد، الذي استشهد في أغسطس 2016، ولم نتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة عليه، بسبب تشديد الحصار على المدينة التي كنا نصلها بربع ساعة تقريباً..
 
التنقل في العيش في هذه الفترة تحديدا، يبدي لك المأساة التي تصنعها الحروب، ويوضح لك الواقع الصعب الذي وَقَّعَت له المليشيا ضمانة مضاعفة آلامه وأوجاعه، وتقطيع أوصاله إِرْبًا إِربا.
 
حيث الشرعية هنا الحرية والعمل، وفي مناطق أخرى تابعة لها ثمة ازدهار ملموس، وصخب ينم عن الحياة، وأناس يتوافدون إقبالا عليها فرارا من الصرخة المميتة والخراب الناكل عند المليشيا.
 
ومع الوقت، يدرك المتنقل قول أبي تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل..
 
لست وحدي، الذي يشعر بأن هناك سلاسل توضع على حنينه، وقيود تكبل أشواقه تجاه إرثه، ذكرياته، أهله، وأيامه التي عاشها في مناطق مختلفة.
 
لم تفرض مليشيا الحوثي حصارًا على المدينة، أو على اليمنيين الذين هربوا من جحيمها فحسب، بل تريد لليمنيين أن يموتوا مغبونين بالحنين، ومكمودين بالاشتياق، وهذا هو الحصار الذي لا تتحدث عنه المنظمات..
 
كم من نازح ترك منزله؟ وعامل ترك قريته؟ وشاب انفصل عن أسرته؟ ولا يستطيعون العودة بسبب الحوثي..
مسقط الرأس، ليس مكان ولادة فقط، بل مهبط الذكريات التي تشكل منها القلب وابتهجت لها الروح
المنزل، ليس كومة أحجار، ولا ملاط بين الجدران تشكل من المادة نفسها التي تخلق منها الآدمية: التراب والماء. المنزل: صندوق الحياة!
 
الأهل/ الناس، ليسوا آدميين يسرحون ويمرحون، ولا أجسادا متخشبة، مهما أظهروا صبرهم على مشقة الحياة، ثمة مشاعر في الأعماق تتكبد عناء النأي المحتم.. هم أحاسيس تمشي على الأرض!..
 
لمَ لا يستطيع اليمني، أن يعود؟ أن يعمل في مكان حتى يتعب فيعود إلى قريته، والدته، والده، أصدقاء طفولته، الذكريات التي بناها لحظة لحظة، يعيش مع نفسه فترة نقاهة دون من منغصات؟
 
لماذا لا يستطيع اليمني أن يتنقل بحرية لأي مكان؟ أو حتى البقاء مطمئنا في منزله وعمله بمناطق سيطرة الحوثي؟
لم تعد حرية التعبير مطلباً هناك، جل ما يطلبه الناس العيش في منازلهم مطمئنين!.
 
كثيرون من المهجّرين الذين لم يستطيعوا ترويض الحنين، استجابوا لوعد خادع لوَّح به الحوثيون لهم: عودوا بأمان! وحين عادوا ماتوا من فرط التعذيب!.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر