عندما يفتح الله على عقلك، وتزداد مداركك، يفترض أن تطوع ما فتح الله لك به من أجل أن تُدمج عشيرتك وتقنعهم بالآخرين، لا أن تفعل العكس وتعمل على خديعة العالم بقدسية العصبة التي انحدرت منها، فلو فعلت ذلك، فستظل مواقفك محل شك، وتظل ناقصا مهما ظهرت زاخر العلم وافر النتاج.

هذه ليست نظريتي، وإنما نتيجة تبدو بديهية وجدتها في ثلاثة كتب مختلفة خلال الأيام الماضية، حيث ذهب المؤلفون الثلاثة لاستدعاء "قاضي وعلامة ومؤلف بارز" والتدليل على ولائه الطبقي، ورغم بأنه كان عالما إلا أنه لم يستطع القفز على سلالته، بل قام بالفذلكة والمغالطة من أجل التأكيد على "أحقية" الطبقة التي ينحدر منها بالحكم.

أما المؤلفون الثلاثة، فهم عبدالله البردوني في كتابه "اليمن الجمهوري"، ومطهر علي الإرياني في "المعجم اليمني في اللغة والتراث"، أما الثالث فهو فناننا الراحل محمد مرشد ناجي في كتابه "الغناء اليمني القديم ومشاهيره"، أما الطرف الذي استحق ردود هؤلاء فهو العلامة أحمد محمد الشامي.

بالسياسة واللغة والفن يردون عليه، وقد تفهمت ذكره من قبل البردوني، لأنه يتحدث عن الثورة، وبدا الأمر مدهشا حين وجدته في معجم مختص باللغة وقد كتبت مقالا أشرت إليه، بعنوان "الثورة في معجم الإرياني"، لكن أوضح الردود ـ بالنسبة لي ـ والتي لم أتوقعها، هي أن تكون في كتاب يختص بالفن، للراحل محمد مرشد ناجي.

في كتابه البديع "الغناء اليمني القديم ومشاهيره"، وبعد تقسيم المواضيع بطريقة بحثية، يدخل المرشدي للحديث عن الفلكلور اليمني، ويعرج على أدب شعبي يسمى "الغناوي" وهو نوع من الغناء تترنم به النساء في المنازل، وينقل لنا المرشدي ما وجده في كتاب للعلامة أحمد محمد الشامي:

"ولما كان من عادة نساء صنعاء أن يحجرن ـ أي يزغردن ـ في مناسبات محدودة مثل الفرح بمقدم "حاج" أو برؤية "الإمام" فقد قالت بعض المغنيات حين سمعت بعض النساء يزغردن بمناسبة زيارة رئيس أجنبي لصنعاء أثناء الحرب القائمة آنذاك من أجل تثبيت النظام الجمهوري:
بتحجرين.. لا هُوْ إمام ولا حجْ
هُوْ يا قحاب من حق بحر رجرجْ"

كانت الزغاريد مخصصة للإمام أو للعائدين من بيت الله الحرام، فتحولت إلى الجمهورية التي قام بها الشعب الذين أشار إليهم الإماميون استخفافا: أبناء بحر رجرج، وبحر رجرج، شارع شعبي ضيق، يقع بالقرب من باب اليمن..

هل لاحظتم كمية الغيظ على الجمهورية، الغيظ المنبث من الغنوية التي أوردها الشامي؟

حسب المرشدي، فإن الشامي يعترف للقارئ بقصر باعه في مجال الآداب الشعبية في اليمن "في حين أن ذلك مجرد تضليل للقارئ العادي كيلا يفهم مقاصد وأغراض هذا الاعتراف، والحقيقة أن الأستاذ الشامي من فرسان الآداب الشعبية وفحل من فحولها".

ويمضي المرشدي بتعليقه الجميل على الشامي، مؤكداً بأن طبقته تنكر آداب الشعب بمخلف فروعه "والأستاذ الشامي اضطره موقفه إلى الاعتراف بالآداب الشعبية وهذا الموقف موقف سياسي استدعاه بالضرورة أن يلجأ إلى الأدب الشعبي "الغنوية" لدعم هذا الموقف القاضي بأحقية السادة بالحكم دون سواهم".

لم يتوقف المرشدي هنا، فالفحش الذي تغنى به "الشامي" بطريقة لولبية، لا يقتصر على النساء اللواتي زغردن، إذ كان يحمل قذعاً للجمهوريين، فقام بلوم الشامي على عدم "قدرته في كبح جماح قلمه الذي تعود أن يقطر أدبا فيما ينفع الأدب والناس عندما سمح له بقذف المحصنات من نساء صنعاء الشريفات اللاتي زغردن لمقدم رئيس أجنبي على حد قوله إلى صنعاء بالقحاب، وهو الحجة في الشريعة الإسلامية، وهذا الرئيس الأجنبي برأي الأستاذ الشامي، هو الزعيم العربي جمال عبدالناصر".

وفي رده، لم يُخفِ المرشدي، إعجابه بالشامي، وبنقد ذكي لا يخلو من طرافة وحذق، يتمنى المرشدي أن ينضم الشامي إلى شارع أبناء بحر رجرج "لأن عطاءه سيكون عظيما كعظمة علمه، ولكنه آثر الصمود في الشارع الذي نشأ وترعرع فيه، في حين أن هذا الشارع قد تهاوى بنيانه وقام على أنقاضه بينان راسخ شيده أبناء بحر رجرج".


***
 
في كتابه المنهجي، يظهر المرشدي أنه أكثر من فنان، وأكثر من مؤلف، بل يكشف عن باحث مطلع على أمهات الكتب القديمة والحديثة، من الأصفهاني إلى هانز هولفريتز، يكتب ويضع توصيات لحفظ التراث النغمي لليمن، ويفصح عن استيائه من الذين يذهبون لدراسة الموسيقى وفي تفكيرهم أن يعودوا مغنيين وحسب دون الاطلاع أو الاهتمام بالتراث، يقول بالنص: «ومن سوء حظ اليمن الفريد في العالم العربي، أن لا يذهب من أبنائها لدراسة الموسيقى إلا وفي تخطيطه أن يعود مغنياً وحسب». كما تحدث عن تجاربه الشخصية مع فنانين عرب مثل الفنان السعودي محمد عبده أو الفنان السوري فهد بلان أثناء تسجيل أغنيته الشهيرة: يا نجم يا سامر..

كل ذلك كوم، والرد على الشامي، كوم لوحده، لأنك تشعر بأهمية الثورة، والوعي الذي خلقته، وضرورة أن يهتم الجميع بها.. ألف تحية وشكر للمرشدي رحمه الله..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر