"ألف ليلة وليلة"


نور ناجي

 نعتقد بأن الانسان لا يزال يروي ذات النوعية من القصص: نجاة بطل مجهول؛ أو هزيمته من صراع اقتصر طرفاه على خير أو شر..، وقد لا تخرج رواية "ألف ليلة وليلة" عن تلك الحبكة- نقول ذلك مع الصفحات الأولى للرواية..!
 
تفتتح الرواية- مجهولة الكاتب- نفسها، بصدمة "شهريار" الناتجة عن غدر أقرب الناس إليه، ليترك بعدها مدينته، مجروح الكرامة، دون نية للعودة، قبل أن يقف مذهولاً أمام سهولة الغدر والخيانة في قصة غدر جديدة كان ضحيتها أقوى "ملوك الجان"..
 
"يبدو أن الغدر والخيانة من طبع البشر.. النساء بالذات!"، يؤكد "شهريار" لنفسه، وقد أسقط كافة خطايا الكون على ما وقع عليه. بعد أن جبن وعجز عن حل مشاكله، وضع "شهريار" نفسه أمام طريقين لا ثالث لهما: إما الهروب مجدداً بعيداً عن البشر، وبالتالي عن الغدر والخيانة؛ وإما التأقلم مع خطايا محيطه بإنتاج خطايا مضاعفة أو اكثر إجراماً وعنفاً!!..
 
عاد "شهريار" إلى مدينته، وقد فرض واقعا جديدا حرص أن لا يكون فيه الفريسة، وإن تطلب منه ذلك قتل كل من يتزوجها لحظة طلوع الفجر عليها معه، حتى جاء الدور على "شهرزاد" التي تملصت من حد السياف "مسرور" باختلاق القصص..
 
"هل أُغرمت شهرزاد بالملك، لتمسي محاولة إسترداد ثقته بمن حوله همها الوحيد؟!"، نتساءل بسذاجة قبل أن يطرح الواقعَ رأي مخالف، فلا أحد يكتب القصص، أو يسردها، في سبيل نشر العبر والمواعظ، ثم من ذا الذي يكتسب الحكمة بقراته لرواية ما؟!
 
قد يقول رأي آخر بأن "شهرزاد" عشقت حياتها لدرجة أن تستمر في خلق القصص والحكايات لألف ليلة وليلة، رغم مخاطر الموت المحيطة بها. قد يحمل ذلك الرأي بعض من الحقيقة، إلا أن "شهرزاد" لم تهرب من الموت بقدر ما وجدت أنها تستحق كتابته وفق طريقتها الخاصة، لا أن تترك رقبتها رهينة بين يدي "مسرور"..!
 
لا يتسلى مؤلف القصص بخلق القصص، بل يحيا ويكمل صناعة نفسه بها، يجاهد لإخفاء ذلك دون أن يتوقف عن الاستمتاع بكل ما يفعله، وإن أفنى نفسه بذلك الخلق، يبتكر عالما بأكمله، يتلاعب به ويمنحه ما يريد من ألوان وخصائص، قدرات ونقاط ضعف..
 
لا بأس أن يكون بطله طيباً ساذجاً، أو حتى شريراً، فلا ينبغي بالضرورة أن يطابق الشرّ، في عالم الروايات، ما تعارفنا عليه في الواقع من صفات الأشرار. ستجد الكاتب يضع في بعض شخصياته، الشخصية التي تشبهه، وأحياناً أخرى لا تخرج صفات بطله عن ما يمقت! في الغالب لا يجيد الروائي أكثر من وصف شخصية يخشى أن يكونها، وكثيراً ما نفذَّ انتقامه عبر أيدي أبطاله من الورق..!
 
لا تكمن المتعة الحقيقة في تحركات البطل؛ بل في ما يشعر به الكاتب وهو يلهث وراؤه، أو يسبقه، حتى يشعر بالملل ويقرر الطريقة التي ينهي بها حكاياته: هل سيقتل أبطاله، أم يمنحهم العفو؟!..
 
لا تحمل النهاية تلك الأهمية. يكفي الكاتب أنه كان، ومازال، المتحكم في مصائر شخصياته. لا تقتصر تلك المشاعر على الأدباء ذوي الأسماء الكبيرة، حاول أن تكتب قصة صغيرة وستدرك الشغف الذي تمنحك إياه. ذلك الشغف الذي حُرمت "شهرزاد" منه، بعد أن وضع لها "شهريار" "مسرور" على الباب!..
 
على الأغلب، أنها أبدت تماسكها في ليلتها الأولى، وهي تطمئن نفسها بأن الحكايات لا تنتهي بهذه السرعة والمأساوية. قالت- وهي تبحث حولها عن فسحة من الوقت، وجدتها في سرد حكاية: حكاية بلا مشاعر حقيقية ستكون مناسبة حتى وصول النجدة..
 
كانت "شهرزاد" قد سمعت- كما سمع غالبية أهل المملكة- بالأسباب التي حولت "شهريار" من ملك عادل إلى قاتل يصدر أحكام الإعدام قبل تناوله وجبة الافطار، ولعلها تعاطفت معه. يحمل المرء قدراً كبيراً من الأعذار والمبررات، حتى يقف تحت حد السيف ويدرك أن تعاطفه المسبق كان سببا في تمادي المجرم وطغيانه. لذلك لم يكن لـ"شهرزاد" أن تُبدي أي اعتراض أو نقد، فقد شاركت فعلياً في إصدار الحق، بارتكاب جملة من الجرائم، لم تضمن من خلالها نجاة، أو حقاً للعفو عنها!..
 
إلا أن الأيام توالت، وتوالت، لتكتشف "شهرزاد" أن الواقع لا يحاكي القصص التي أخذت تسردها؛ من قال أن الطيبين يصنعون قصصا مثيرة أو نهايات سعيدة. فكما ينتظر السياف لحظة قطع رأسها، لم يخرج والدها، أو سكان مدينتها، من قائمة التخاذل والتخلي، رغم دموعهم والتعاطف الذي ابدوه!..
 
شارك الغالبية في وضعها تحت رحمة "مسرور"؛ ابتداء بالملك، وانتهاء بأختها المختبئة تحت السرير حتى موعد سرد الحكايات.
 
غالباً ما يحاول المرء الهروب من قدره بتجاهله! ولقد حاولت "شهرزاد" ذلك، وهي تعصر عقلها في ابتكار القصص وتأخير نهاياتها كل ليلة إلى أن يطلق الديك صياحه وينبئها بإضافة يوم جديد لحياتها.. دوامة متواصلة لم يبد لها نهاية مع مرور مئات الليالي!..
 
كيف قضت "شهرزاد" نهاراتها بعيداً عن تهديدات الملك وسيافه "مسرور"؟! لم تكن تشعر بالأمان وهي تتنزه بين حدائق القصر؛ كما كان من الصعب أن تبقي على محبة تجاه الملك، حتى مع الألقاب التي اطلقت عليها، فقد انتزع منها "شهريار" شعورها بالإنتماء، واحتمالية الوقوع في حبه لحظة أجبرها على الإنتماء إلى قاتل..! لا أحد يقع في حب سجانه، وإن أسكنه أجمل قصور العالم، فكيف وقد أمست حياتها معه عبارة عن تهديد مستمر؟!.
 
لم أتمكن من معرفة نهاية رواية "ألف ليلة وليلة"، ولم يأخذني الفضول، أو حتى شعوري بالتقصير لتمرير صفحات الرواية، بحثاً عن النهاية. فقد أدركت مبكراً أن محتوى قصص "شهرزاد" لم تكن لتزيد عن حبكة واحدة غلفت بها كافة لياليها!..
 
كرهت شهرزاد الملك!؛ كراهية عميقة أخفتها ببراعة بين سردها المتوالي؛ ربما ليس لتحكمه بحياتها، أو تهديده الدائم لها وحسب؛ بل لحرمانها سرد الحكايات كما تهوى.
 
 لذلك، ما كان ينبغي أن يحصل "شهريار" على نهاية سعيدة. بل كان من العدل أن يبقى معلقا بين دوامة كراهيتها له، عبر القصص السخيفة لأكثر من الف ليلة وليلة، محت فيها "شهرزاد" سيرة الملك، وسيرة كاتبها، وأبقتها على سدة رواة القصص حتى يومنا!..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر