العقدة السبئية (2)


نور ناجي

 لم يخفي اليمني احباطه من دعائه بتباعد اسفاره سنين طوال، حتى اتجهت وفوده إلى المدينة المنورة بقوافل فائضة بالأمل، على الرغم من انقسامها بين زعامات يمنية محضة وبين ما ترأسه "باذان"، الحاكم الفارسي- أو من ينوبه- مكلل باتباع كثر استقر غالبيتهم في اليمن منذ حملة سيف بن ذي يزن.
 
كسياسي محنك، وجد "باذان" أن رحلته إلى المدينة أكثر فائدة من تمسكه برفض حاكم كسرى للدعوة الجديدة، بعد ان اجبره ابتعاده عن فارس ومحاصرته بكراهية لم يعد يخفيها اليمني لأفعال أبناء الفرس العنصرية!..
 
لا ينبغي له أن يخاطر بمحاولة هروب مكشوفة، أو تنازل أرخص مما دفعته امبراطوريته لاحتلال اليمن، خاصة حين علم بأن الرسول لم يحاول فعلياً التدخل في طريقة حكم أي بلد أو قبيلة تحالفت معه حتى يصدر من حاكمها ما يمس رعاة المؤمنين فيها..
 
بينما حملت وفود القبائل اليمنية إيماناً صادقاً بجانب حلم انشاء دولة وكيان، اعتقدوا واهمين أن عودتها ستقع على عاتق الدين الجديد، دون أن يدركوا بأن الأديان لا تتنزل على الأمم للتمييز بين قومية أو سلالة ولون!..
 
كانت وفود "باذان" قد سبقتهم لتعلن اسلامها، ويبقى "باذان" على سدة حكمه، بينما عادت الوفود اليمنية المتفرقة بدين سماوي مكمل لأديان كانوا مؤمنين بها مسبقاً، وفارغي الوفاض من حلم دولة اخفوها بين طموحاتهم.
 
هل خيبت نتائج تلك الرحلة ظنهم؟ لعلهم وجدوا أن دعاء جديد "بتباعد اسفار نكد" كان أخف وطأة من عرض مشكلتهم بصراحة على الرسول محمد، أو انهم خجلوا من طرحها، خاصة وان جزء كبير من تلك الخيبة انصب على الزكاة التي فرضت عليهم، واكتفوا بالانضمام لدولة قوية أو حكم ذاتي تحت كنفها، لتخفف عنهم كلفة التشرذم والتفكك الذي دفعوا ثمنه قرون عدة. 
 
يجدر بالذكر أن المجتمع اليمني كان مُقراً لذات النسبة من الزكاة قبل الإسلام وانحصر اعتراضه على استحقاق أهل اليمن من الفقراء لها.
 
استسلم الاكثر تفاؤلاً لعل الغد يحمل من الخير الكثير، بينما اعلن "عبهلة بن كعب العنسى" من قبيلة عنس رفضه للواقع الجديد!..
 
تتأرجح المصادر التاريخية بين اسلام "الأسود العنسي" من عدمه، إلا أن غالبيتها يؤكد ادعائه النبوءة، ومجاهرته بذلك لحد رفعه للسيف.
 
لماذا قام عبهلة بذلك الفعل؟
 
كان عبهلة متفهم لأسباب انضمام اليمنيين للدين الإسلامي بعد عقود من التشرذم والتية، إلا أن ذلك الدين، في النهاية، الغى فرصة اعادة تشكيل دولته الخاصة به!..
 
"إذا كان الدين عقدتنا، فلنصنع اذاً ديناً يليق بنا"، قال عبهلة لنفسه، في تكرار لنسخة ذو نواس المتسلطة، مع بعض الإضافات والاستنساخ للنموذج المحمدي الناجح، في محيط لم يعرف قبله قيام للدول إلا عبر تجمع القبائل والعشائر؛ "نبوءة" حظي اقدمية مؤيدوها بأعلى المناصب تباعاً، قبل أن تعتمد على نفسها وتجد مصادر دخل كافية لاستمرارية بقائها.
 
تناسى عبهلة في خضم دعوته المزيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرفع سلاحه مطلقاً لإجبار فرد أو قبيلة على اتخاذ الإسلام دينا، كما لم يجبر مرتد على العودة لدينه، ولم يكن اصداره أمر الحرب على الأسود العنسي إلا دفاعاً عن حدود دولته وحرمات انتهكها العنسي بتحد سافر بعد أصابته قوافل زكاة أهل نجران المتجهة إلى المدينة المنورة.
 
انتهت مغامرة العنسي بالفشل، كما كان مقدراً لها. فالدول لا تقوم على الادعاء والكذب. 
 
ربما كانت حاجة اليمني للدولة ومفهومها، هي ما جعلته يطرح الفكرة الأولى في التاريخ لتداول السلطة ومفهوم الدولة المدنية تحت سقيفة بني ساعدة: "منا أمير ومنكم امير"، الأمر الذي رفضه بعض الصحابة كما رفضوا شبه اجماع على مبايعة "سعد بن عبادة" كبير الانصار.
 
لم تنتهِ القرارات السياسية لحروب الردة، والتي عمل بها الصحابي الجليل أبو بكر الصديق ورفض عمر ابن الخطاب تبنيها، ليذكرنا ذلك بأن قرار حرب الردة كان سياسي بحت؛ لكن اليمني على ما يبدو يحمل حساسية مفرطة تجاة الدين وتجاة الدولة أيضا، خاصة بعد اغتيال "سعد بن عبادة" بعد عام تقريباً على اجتماع السقيفة في أول جريمة اغتيال سياسية في تاريخ الدولة الاسلامية.
 
شارك اليمني في حروب الفتنة التي قامت بين معاوية وعلي بكل ضراوة. كلُ وقف في الجانب الذي وجد فيه مصلحته حتى انتهت دون أن يحظى اليمني بحكم ذاتي أو تفهم لخصوصية حالته، لتتداول الخلافات حكم اليمن من عواصم بعيدة، رأى امراؤها وجوب افراغ اليمن من الرجال الاشداء واستخدامهم في الفتوحات الاسلامية، بينما احكموا قبضتهم على من تبقى منهم.
 
لن يكون التراخي مناسباً للتعامل مع شعب مازال يروي لصغاره حكايات امجاد اجداد مضوا. 
 
المدهش في الأمر أن اليمني كان يبلغ ذروة نجاحاته طالما كان غريباً، وكأن مفعول عقدته السبيئة تتلاشى لحظة عبور حدود الدولة القديمة!..
 
إلا أن اليمني في الداخل مازال يدفع زكاته مرغماً إلى تلك العواصم، حتى في زمن المجاعات. لعله حقق بعض من انتقامه عبر مساندته لمعارضي تلك الخلافات، بما فيهم القادمون من "فارس" التي لم تتوقف للحظة عن الشعور باحقيتها التاريخية لأرض اليمن. وكما حقق "باذان" استقراره بلباس الدين، عادت العمامة لتعلب دورها مجدداً باسم الدين والمذهب..! 
 
ليعود اليمني مرة أخرى لتيه التمسك بالدين، أو رفضه، وما بينهما من حلم اقامة الدولة. وتتضاعف عقدة الذنب التي مازال يرتكبها ويتوب عنها في "سفر متنقل" بين المذاهب والولاءات. ربما لم يحمل تلك البراءة، فمازال متمسكاً بالمذهب أو الولاء- وإن كان جائراً- طالما حمل قبضة قوية قبل أن يميل لكفة أخرى أرجح،.. وهكذا..
 
طالما خلط اليمني بين مفهوم الدين والدولة؛ حينا يرى نجاته في فرض الدين على الدولة، وحيناً يراه عبئًا فيسعى جاهدا لفك ارتباطهما، متجاهلا حقيقة أن لا دولة دون دين، ولا يحافظ الدين على كيانه إلا تحت ظل دولة قوية.
 
فالتدين حالة طوعية، وجدانية، لا ينبغي تزييفها أو الإجبار عليها، بينما تقام الدول وفق قوانين: "أخلاقية" لا تخرج عن اطار الدين؛ و"مدنية" تخضع للظرف والمكان بما يضمن بقائها ويكفل سلامة المجتمع فيها.
 
كمنت خطيئة اليمني، ومازالت، في محاولاته الدؤوبة لدمج "السياسة" بالدين، أو تمييع قوانين الدولة وفق المصالح السياسية المؤقتة، إلا أنه مازال الأوفر حظاً بمنحة الأرض الطيبة، التي لم تتوقف عن اعطائه الفرص تلو الأخرى لانضاج تجربة احتاجت منه مئات السنين..
 
فهل سينجح في الخلاص من عقدته أو سيبقى تائهاً فيها حتى يستنفذ فرص نجاته؟!

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر