تزايدت في الآونة الأخيرة حدة التجاذبات السياسية والفكرية، على خلفية الرسوم المسيئة للرسول، وما ترافق معها من تصريحات للرئيس الفرنسي ماكرون وقال فيها: "لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر البعض"، والتي اعتبرها غالبية المسلمين إساءة للإسلام، باعتبارها دعوات عنصرية تعزز من ثقافة الكراهية، غير أن آخرين اعتبروا الموقف الفرنسي الرسمي، إضافة إلى الشعبوي، لا يخرج عن حرية التعبير..
 
مواقف رسمية وشعبية إسلامية انطلقت تندد وتدين وتشجب هذه التصريحات باعتبارها انتهاك لحرية التعبير، واستفزاز لمشاعر ملياري مسلم، تلا ذلك دعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية، والتظاهر في بعض الدول.
 
فهل هذا يندرج ضمن حرية التعبير، ام أن له بعدا آخرا وقرءاة أخرى؟!
 
هذا ما يمكن الإجابة عنه وبشكل مقتضب في السطور التالية..
 
في الواقع: مبدئيًا، لا يوجد نص قانوني "دولي" يجرم الإساءة للمقدسات والمعتقدات والرموز الدينية، وهذا ربما له مبرراته.. غير أن ثمة نظام أخلاقي متعارف عليه والذي يندرج ضمن احترام الآخر في ترسيخ لثقافة التعايش وتحقيق السلام العالمي الذي تتطلع له كل الشعوب وتعمل على تعزيزه في ظل العولمة؛ بل وتعترض على كل من يحاول تهميشه..
 
  هذا، مع التأكيد أن هناك دول لها قوانينها الخاصة فيما يتعلق بتجريم المعتقدات والرموز الدينية.. ونحن كمسلمين لدينا نصوص دينية تحذرنا من الاقتراب أو المساس بمثل هذه المسلمات لدى الآخر، وتنهى عن أي محاولة استفزاز، وبدلا من ذلك تدعونا الى الحوار كمدخل عقلاني سلمي لتوصيل أفكارنا وفهم الاخرين، إلى جانب أن ديينا الذي نعده عالميا وشموليا، هو دين سلام ورحمة، وينهى في ذات الوقت عن كل مظاهر الغلو والتطرف..
 
  إذن؛ الحريات، إن لم تك مجرمة، إلا أنها محكومة بضوابط أخلاقية، تراعي مشاعر الآخر، من أجل تحقيق السلام العالمي. هذا فيما يتعلق بالآخر خارج إطار الدولة، فكيف بمن يشكل جزءا من المجتمع ذاته، ويحمل هويته، ويؤدي كافة استحقاقاته القانونية وفقا لهذه الهوية،.. أليس أولى باحترام رموزه ومعتقداته، بما يعزز من تمتين وتقوية روابط المجتمع، ويرسخ من قيم التعايش، ويخلق بيئة آمنة وفاعلة بعيدة عن الصراع والإرهاب الفكري، والتنمر المجّرم عند كل الشعوب..؟!
 
فلماذا أغفلت فرنسا هذا الأمر، مع مواطنيها المسلمين والذين يشكلون 5٪ تقريبا؛ ومع العالم الاسلامي وما يربطه معها من مصالح مشتركة؟!
 
 إن ما نشهده اليوم، هو تراجع حضاري لبعض الدول التي تحاول أن تعود إلى الثيوقراطية من جديد، في إعادة لفاعلية الكنيسة كنائبة عن الإله، وتبقى الشعوب مبلدة من التفكير ومخمره بالافكار المتطرفة، وهي بداية المحرقة التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى، وما تلا ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين تحولت أوروبا إلى غابة يسودها نظام التوحش والبقاء للأقوى، وهو ما سيلقي بانعكاساته على المسلمين المتواجدين هناك، وربما يمتد الى الدول الإسلامية لالتهامها تحت مبررات كثيرة...
 
هذا التراجع، بعد الانعتاق والصحوة والتحرر ( غير المنضبط) والذي يمثل قنبلة موقوته، هو دليل على أزمة فعلية لا زالت تسود الجماعات اليمينية المتطرفة، المستندة الى النصوص الجدلية والإرث الماضوي المثخن بالجراح، والمعتقد الزائف بالأفضلية، وهو ما يشبه- حد التطابق- بعض الجماعات الاسلامية التي ترى أحقيتها بالحكم وفق هذه الأبجديات.. وحين تصل الى الحكم فإنها تتخلى تدريجيا عن نظام الدولة، أو تستغل ثغراته لتطفح ببعض معتقداتها، وهي حالة تعكس تبلد اليمينيين في السياسة والحكم وقفزهم على النظم العامة للدولة، وتجاوزهم للبروتوكلات المتعارف عليها، في مشهد يظهر وجههم الحقيقي، غير البراجماتي..
 
  ولا شك أن فرنسا ترى نفسها بأنها الدولة المحورية دينيا في أوروبا، ولذلك فإنها المرتع الخصب للأصولية الدينية، المتشبعة بالاستعلاء والعنصرية، الى جانب العلمانية غير المتدينة  لكنها متعصبة للمسيحية كهوية. وهي - فرنسا- تظن نفسها بأنها حامية المسيحية "الكاثولوكية"، وتنطلق في التعامل مع الآخر وفق مفهوم العدائية الدينية للأصوليين، أو القطبية الدينية لمن يعتبرون المسيحية هوية. فهي وإن تقدمت مدنيا وعمرانيا، الا أنها لم تتقدم حضاريا. فمهما رأينا من معالم للثقافة ومفاهيم المواطنة...، الا أن ذلك ليس بالحضارة بتعبير بيجوفيتش في كتابه "الاسلام بين الشرق والغرب"، لأن الحضارة روح وجوهر وليست ثقافة مجردة. ومن هذا المنطلق، ستجد أن المسلمين يعاملون بدرجة دونية في فرنسا، مع أنهم يحملون جنسيتها، ثم أن لديهم أماكن معينة للسكن فيها، كذوي الأصول الجزائرية. بالإضافة إلى أن فرنسا هي راعية التبشير في العالم ومنطلق التنصير وازدراء الاسلام..
 
وما يقوم به المسلمون اليوم، هو إثبات البعد الحضاري لهم، حينما يغضبون بفعل سلمي لا يتجاوز الندب والتنديد والمقاطعة..، وهو وإن بدى غضبا على رسولهم، محمد عليه الصلاة والسلام، الا أنه في الوقت ذاته يمثل سخطا على خرق قوانين التعايش والسلام، ومنعا للولوج في أنفاق التطرف والإرهاب واستباحة الدماء تحت مبرر المعتقد..