لم يكن وجود مدارس نظامية بالأمر المريح للإمام "يحيى"، خاصة بعد أن حوّل القديم منها إلى حظائر لخيوله أو بيوت لحاشيته؛ لكن ظروف العصر اضطرته لفتح بعضها في المدن الرئيسية محدداً لها أسم "مدارس الايتام"!..
 
لماذا الأيتام، رغم عدم اقتصارها عليهم؟! ربما لأنها ستُنتِج موظفين طيّعيّن، بشعور امتنان دائم في دوائر حكمه!..
 
تكمن مشكلة الطغاة، اعتمادهم ذات النهج أمام متغيرات لا ثبات لها، لا يلبث الوقت أن يمر حتى تنقلب نظرياتهم عليهم وتجرهم جراً إلى النهاية.
 
مازالت الإمامة قابعة على مقعدها في صنعاء؛ حين ذهبت قرية "بيت الرداعي" تزف صغيرها على الفرس، فلم يكن حفظ القرآن لطفل لم يتجاوز السابعة من عمره بالحدث العادي؛ لكن هل اكتفى الصغير- الذي فقد والده في الرابعة من عمره- بالولائم والإحتفالات المخصصة له، أم أنه أراد المزيد؟!
 
يشعر البعض أنه يستحق الأفضل، وكان "علي عبد المغني" من أولئك الذين يستحقون الأفضل. لذلك اتجه نحو صنعاء في عامه التاسع دون أن يعبأ بمشقة الطريق والمجهول الذي ينتظره. وعلى الرغم من استيفائه شرط دخول المدرسة- كيتيم- إلا أنه استعان بـ"حسين الكبسي"- وزير خارجية اليمن حينها- والذي صادف حضوره إحتفال حفظه للقرآن، ليتمكن في العام 1946 من الإلتحاق بالصف الرابع، حسب ما قررت المدرسة ولجنة الاختبارات فيها.
 
لم يتجاوز الصبي الحادية عشر من عمره حين التقى مصادفة بالضابط "جمال جميل"، أحد أبرز قادة ثورة 1948، أو ما يطلق عليها "ثورة الدستور"، وآخذ الأخير يستمع من رفيقه  "الكبسي" أمر نبوغه وتفوقه الملحوظ، فالتفت جمال إلى الفتى سائلاَ: "ما السعادة في نظرك، يا علي؟!"..
 
لم يكن الضابط، لحظة إلقاء سؤاله، في أحسن حالاته، خاصة وقد رفض العالم الإعتراف بثورته ورفاقه، وتوالت الأخبار باحاطة الإمام "احمد حميد الدين" بمدينة صنعاء، مع رجال القبائل الموالية له، لكن الصبي استطاع إخراجه من كل ذلك بجوابه السريع: "السعادة هي الحرية".
 
لا يحمل إرشيف الثورة اليمنية العديد من الصور للمناظل "علي عبد المغني"، إلا أن القليل منها سيفي بالغرض؛ حتى مع عدم وضوح ملامحه، تكاد نظرة الشاب تخترقك، وقد تزاحم عليها ذكاء متمرد وطموح لا محدود؛ بالإضافة إلى بريق خجول لا تتمكن من فك لغزه بسهولة! مزيج لم يكن ليخفى على الضابط الكبير، فهتف وهو يضم الصبي إلى صدره: "لو فشلت ثورتنا، لا سمح الله، فهذا الشبل هو الذي سيسحقهم، ويكمل ما بدأناه".
 
منح الضابطُ الصبيَ، في ذلك النهار، "1000 ريال فضي"، وهو ما كان يعد ثروة في تلك الأيام. هل أراد اعانة الطالب اليتيم لانهاء تعليمه؟! أم أنه فَطِنَ إلى أهمية مواصلة الصبي طريقاً سبقه إليه، وبات يشعر الأن بعدم قدرته على اتمامه؟!
 
يبدو أن الأرض تقوم بدور الأب، بطريقة أو أخرى، للحصول على امتنان احرارها..
  
لم تمضِ أياما، حتى هتف الضابط الشهيد "جمال جميل"، أمام السياف والحشود الغاضبة، عبارته الشهيرة، وهو على مقصلة الإعدام: "حبّلْناها لتلد". لا يمنح لنا الموت وقتا للتهديد والوعيد، الحقائق التي نثق بها هي ما نتفوه به.. هل مر "علي عبد الغني" أمام خيال الضابط قبل أن يلقي عبارته تلك؟!
 
لا أحد يدري!! إلا أن المؤكد بأن صنعاء لم تكن لتتجرأ على القيام بمظاهرة، حينها، حتى نظمها "علي عبد المغني" في العام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر..
 
استفزت- تلك المظاهرة- الإمامة، التي لم تكن لتقبل بفكرة الاحتجاجات وإن لم توجه ضدها، ليرمى به ورفاقه في سجن رداع؛ "بعض التأديب سيعيدهم إلى الرشد"، قال السجان وهو يغلق باب القبو عليهم.
 
ما الذي شعر به الشاب بين تلك الجدران؟! ليست تلك الحرية التي كان ينشدها!! ربما عليه الأن الاقتناع بوظيفة محايدة تضمن له دخلاً مريحاً وواجهة اجتماعية مناسبة؛ "حياة سعيدة" تغنيه عن طريق شاق لا أمان له، فلم ينسى بعد مصير قادة ثورة 48، الذين لم يتخلى عنهم الشعب وحسب؛ بل وصفوهم بالخيانة ونقض العهود!! فكيف ستكون ردة فعلهم، إذا، مع شاب منحته الأمامة "شرف" التعليم في مدارسها؟!..
 
لا بّد وأن مثلك تلك الهواجس، وربما غيرها، دارت في ذهن عبد المغني..
 
غالباً ما تنعكس البيئة، وطريقة النشأة، والموروثات، سلباً أو أيجاباً على الفرد، إلا أن تقدير عبد المغني لنفسه كان أكبر من كافة العقبات التي قد يظنها آخر في نفسه، فانتصر على سجن رداع، ولم يسمح للخوف أن يتسرب إليه ويجعله يتراجع عن ما يراه حقاً له؛ بل على العكس، لم يخرج من السجن إلا وقد تضاعفت رغبته في التغيير، وأيقنَ أنه لن يحصل على سعادته حتى يقدر الشعب اليمني ذاته، وينال المكانة التي تجدر به.
 
لا يولد الجميع ثوّاراَ، ولا يدرك المرء ما يستحق، حتى يكون بين يديه..
 
تدارك عبد المغني- ما أمكن- الأخطاء التي وقع فيها سلفه، ثوار 48، وآخذ ينشر أفكاره؛ لم يترك تجمعاً تمكن من حضوره إلا وخاطبه بلهجته؛ صارح البعض بوجوب التغيير، وترك بَصمَتَهُ للأقل إدركاً بقصص عظماء غيّروا أوطانهم للأفضل بما يشبه المعجزات!..
 
كان الأمام احمد أذكى من عدم ملاحظة طموح الشاب الذي أخذ يلقي وسط الحشود كلمة خريجي الدفعة الثانية للكلية الحربية، ولم يكن قد نسى تاريخه بعد!..
 
"بإمكانه التخلص منه، إلا أن ذلك قد يُحدِث ضجة لا داعي منها، كما أن شراء الولاءات ليس صعباً، ولا بأس من المحاولة!"، حَدّثَ الأمام نفسه بذلك، وهو يخرج قلمه الذهبي ويسلمه للضابط الشاب بجانب شهادته..
 
لم يكن عبد المغني بأقل ذكاءاً أمام تلك النظرات التي أخذت تُحَدِّق به، ترهيباً وترغيباً. لعل الشاب حدّق في القلم المُذّهب مطولاً، قبل أن يضعه في جيبه بإمتنان حقيقي، فلن يجد أفضل من حبره ملائمة ليخط به أهداف ثورة قادمة..
 
توالت الأحداث، وعلي عبدالمغني يتحرك دون توقف؛ يجتمع بقيادات الجيش حيناً، ويلتقي بالوجاهات القبلية حيناً آخر، دون أن يتوقف عن تحريك الاحتجاجات- "الصوت العالي" لإيقاظ الشعوب حتى تنال حريتها وسعادتها..
 
وفي العام 1962، أنطلقت ثورة الـ26 من سبتمبر؛ إلا أن الأسبوع الأول منها لم ينطوي حتى نال شرف كونه أول شهدائها. البعض لا يكتفي بمجرد نعي حزين، الموت اللائق فقط هو ما يستحقه..
 
لا تهبط الحرية، أو السعادة، هكذا من السماء فجأة، أو تُلَف لك باوراق الهدايا.. إنها تجلب بعضها بعضاً بمجرد أن تنزع عنك الخوف، وتستند إلى الحق، وأنت تواجه الطغاة..
 
 ليس ذلك البريق، الذي تلمحه في عيني عبد المغني، سوى السعادة الحقيقية التي تذّوّقها ورفاقه منذ بداية رحلتهم..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر