الأمير الخائن


نور ناجي

 دخل الإسلام بلاد البنغال مبكراً إلا أن ادارتها عبر حكام مسلمين لم يتم حتى انشقت عن الامبراطورية المغولية في القرن الرابع عشر.
 
انشأ "النواب"- اللفظ الذي كان يطلق على ولاتها- دولة قوية، امتزجت فيها الثقافة البنغالية والاسلامية بطريقة فريدة، قبل أن يتسبب أحد امرائها بالقضاء على استقلالها واستعمار بريطانيا للاقليم كاملاً..
 
امتلك "مير محمد جعفر علي النجفي"- المعروف ب"مير جعفر"- طموحا سياسيا ورغبة عارمة في الحكم، جعلته ينضم إلى الجيش البنغالي مبكراً ويتدرج في مناصبه حتى تمكن من الزواج من ابنة "نواب سراج الدولة"، والي البنغال حينها. لم يكن ذلك بالأمر العسير، خاصة مع اصوله القرشية، التي حمل لها مسلمي البنغالي الكثير من التقدير.
 
ارتبط تعريف الطموح بالحركة والسعي لتنفيذ الرغبات. يمكنك القول أن حركة الأرنب بحثاً عن عشب، أو فراره من مفترس، لا يتعدى عن كونه طموح في البقاء..
 
لا يستثنى الإنسان من ذلك التعريف، إلا أن "نوعية البقاء" ومقدار الجهد المبذول لأجله هي ما تحدد حركة البشر لتنفيذ طموحاتهم التي لا تخرج غالباً عن ثلاثية: "السلطة، المال، والحب"!..
 
فما المدى الذي بلغه "مير جعفر" للوصول الى احلامه وطموحاته؟!..
 
حملت "شركة الهند الشرقية" تفويضاً مباشرا من ملكة بريطانيا للتجارة مع جزر الهند الشرقية، قبل أن تكون المدخل لاستعمار المنطقة. وقد تنبه سراج الدولة في منتصف القرن السابع عشر لمخاطر تلك الشركة واهدافها الحقيقية، فعمل على محاربتها قبل أن يواجهها مباشرة بالقرب من قرية "بلاسي"..
 
بدى له من ساحة المعركة الممتدة امامه ومعطياتها رجوح كفته، فقد كان صاحب الأرض وادرى بشعابها، تجاوز جيشه 35000 مقاتل، بينما اقتصر العدو على 3000 جندي بريطاني. لم يكن العدد من منحه تلك الثقة وحسب، بل دعمته عدالة قضيته وحتميتها، دون أن يدرك أن "مير جعفر" كان قد تلاعب بتلك المعطيات!..
 
سارت المعركة في بداياتها الأولى، كما توقعها "سراج الدولة"، حتى استيقظ على فوضى انشقاق جيشه على يد زوج ابنته وانضمامهم لجيش العدة. لا بّد وانه حارب بقسوة بغية القبض على ذلك الخائن قبل أن يصيبه اليأس ويرجو الهرب ..
 
لم يذكر التاريخ إن كان "مير جعفر" حضر  إعدام "سراج الدولة"، بعد ان تم القبض عليه، أم ترك مهمته الثقيلة للقائد البريطاني "روبرت كلايف" وجنوده؟!..
 
لا تحمل النفس البشرية ذلك النقاء. مازال الخير والشر فيها بذات القدر، يرجع تفاوت نسبه بين شخص وآخر إلى مقدرة احدهم على تخطي الحاجز الفاصل بينهما. قد يكون الطموح مبررا لفعل الخطيئة، إلا أن فهم الكيفية التي قد يتخفف بها فرد من قيمه الأخلاقية لدرجة المساعدة في احتلال بلده، كانت ومازالت الأصعب؟!.
 
لم يكن "مير جعفر" الوحيد الذي ادرك خفته بعد تخليه عن وطنه، فقد عامله حلفاؤه قياساً على وزنه الجديد، خاصة وقد كان أول قراراته تعويض بريطانيا عن خسائر استعمار بلاده. لا يحمل المستعمر الاحترام لخائن إلا بقدر الحاجة إليه، وقد تم الاحتفاظ بمير جعفر بعض الوقت قبل أن يتم استبداله ب"زوج إبنته" الذي حاول لاحقاً التمرد، الأمر الذي حدى ببريطانيا إعادة "مير جعفر"، ذو الطموح الأنسب لمصالحها!..
 
من قال أن القاع لا يمنح المزايا؟!..
 
قد تكون السلطة هي الرغبة الأعلى في مراتب طموحات البشر.. كانت ومازالت المانح السهل لبقية مطامعهم!!..
 
اعتقد مير جعفر أن خيانته لوطنه ستمنحه تلك السلطة، حتى وقف على كرسي حكمه جندي بريطاني أخذ يراقب حركاته وسكناته عن كثب خشية محاولة انقلابية أو تمرد جديد. فلا يمكن لبريطانيا منح ثقتها الكاملة لخائن. لعل الملك الهش اكتشف بعد انعدام الخيارات أمامه، واستمراره في تقديم التنازلات للمستعمر، بأن المفاضلة بين الطموحات أشد صعوبة من السعي إليها..! 
 
هيمن الإستعمار البريطاني على البنغال طيلة 200 عام، قبل أن تتحرر من سطوته وتحاول محو ما بقي من أثاره؛ إلا من لفظ "مير جعفر"، الذي مازال يستخدم ك"شتيمة" مرادفة للخيانة والغدر، فبعض الجرائم لا تسقط بالتقادم!..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر