العالِم الثائر (1)


نور ناجي

"لا نريدك بيننا!"، أجبرت هتافات أبناء صنعاء "يحيى ابن الرسي" على مغادرتها خائباً في العام ٢٨٠ هجرية، لتستقبل ما اعتبرته الشخصية الأهم في التاريخ اليمني وللاسف الأكثر اهداراً لحقها: "الحسن بن أحمد بن يعقوب الأرحبي البكيلي الهمداني"..
 
تجبرك الشذرات القليلة، التي تلتقطها عن الهمداني، على الوقوف المطول لإيجاد تعريف مناسب للرجل. فهو المؤرخ والنَسّابة، الأديب والشاعر، الفيلسوف والرَحّالة، الكيميائي والجغرافي..، لن تنتهي تعريفات الرجل قبل أن تتوقف عند: "الثائر الأول ضد "الإمامة"، والمنادي دون مواربة للقحطانية والتمسك بالجذور الحميرية..
 
قد يجد البعض في الوصف الاخير تهمة بالعنصرية، لم يكن لعالم مثله أن يحملها، فكيف التصقت به؟!، ولماذا؟!..
 
لم يمثل انتماء الحاكم لأرض اليمن معياراً لتفضيله في زمن نشأة الهمداني. فلم تكن سوى إمارة يتناوب عليها الولاة القادمين من مركز الخلافة البعيد. لذلك لم تشكل عودة "الرسٌي"، بعد أربع سنوات من طرده، معضلة أمام طموحاته، فبنو زياد يحكمون "زبيد" على الرغم من مؤسسهم "الأموي"، بينما استمد اليعفريين، ذوو الأصول الحميرية، مشروعيتهم من خلال ولائهم للخلافة العباسية!..
 
ورغم تذمر القبائل أمام ذلك الولاء، والزكاة الثقيلة المترتبة عليها، إلا أنها لم ترحب بشعارات "علي بن الفضل السبئي" والتي أخذ يرددها وهو يبتلع الإمارة تلو الأخرى، وقد تجاوزت مطامعه ما هو أبعد من "صنعاء"..
 
"خارطة مضطربة"، لم تجعل الفتى المهتم والمراقب الوحيد للشأن السياسي، ولم تستثنه من معيشة قاسية اضطرته للعمل مبكراً في أحد دكاكين الحدادة، التي كانت الشرارة الأولى لاتقانه الكيمياء..
 
رغم شغف الهمداني بالتعدين لم يتوقف عن دروس القران وأحكامه، حتى عرف بين أقرانه بسرعة استدلاله للآيات. أتقن الشعر كجده، وأخذ ينظم ابياته بمَلَكَة وصف بديعة، انتجتها مخيلته الواسعة ورغبته الملحة في أن يصبح رحالاً "كوالده" الذي قضى سنوات شبابه الأولى متنقلاً بين مدن العراق وعمان ومصر، قبل أن يستقر نسبياً ويختار أن يكون "جمّالة" للحجيج..
 
نحن أمام طفولة سليمة، يملك صاحبها ما يكفي من المعرفة لتجنيبه الأمراض الاجتماعية. فالعنصرية والوعي لا يجتمعان على ذات الوعاء، حتى عادت السياسية للتدخل مرة أخرى في حياة الهمداني بدخول إبن الفضل صنعاء في العاشر من محرم ٢٩٣ هجرية، وفرار آل يعفر منها!..
 
لم تؤدي سيطرة القرامطة على صنعاء الى الهدوء كما توقع قائدها، بل اشعلت المزيد من الاضطرابات، ولم تتوقف التحالفات ومعاركها عن التلاعب بمصير المدينة، حتى قررت عائلة الهمداني وغيرها النزوح..
 
لم تكن مغادرة الفتى، الذي لم يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً، لتسبب له غضب مكبوت. فصعدة، الهادئة نسبياً والمركز الأهم لتجمع الحجاج، ستكون نقطة إنطلاق محتملة لترحال يرجوه، كما ناسبه التقاءه فيها بشيخه الأحب الى قلبه: "أبو نصر محمد بن عبدالله اليهري الحميري"، ليكمل دروسه في قراءة الخط المسند واللغة الحميرية، دون أن يجد في ولاء معلمه للهادي "الرسٌي" بأساً أو سبباً قد يمنعه عنه. يقودنا ذلك إلى استثناء "اختلاف المذهب" كسبب وراء محاربة الهمداني اللاحق "للإمامة"..
 
لم يحمل "الرسي"- المتحكم في صعدة- القوة التي أخذ مؤيدوه يروجون لها. فعلى الرغم من استخدامه القوة المفرطة ضد القرى التي فرض سيطرته عليها، إلا أنها استمرت بالانتفاض ضده، لعله وجد في الترهيب وسيلة مناسبة لتأديب طويل الأمد، لن ينحصر في قرية هنا أو هناك، بل سيمتد أثره لقبائل أخرى يأمل في إخضاعها، لتكون مجازره ضد "بني الحارث" في "عسير ونجران"، الأولى من نوعها، بهدمه لقراها ودفن الآبار فيها، وكأنه يبغي بذلك القضاء على أجيال قادمة بعد أن علق عراقيب الآباء على أغصان الشجر!..
 
حتى بمعايير ذلك العصر كان ما ارتكبه الرسي صادماً، ليس للهمداني وحسب، بل للكثير من القبائل التي لم تكن لتتجاوز- مهما بلغت من عداوة- خطوط حمراء أقرتها الاعراف والتقاليد، ومن ثم الدين. لذلك كان لزاما عليها التصدي للغريب الجاهل بتلك الحدود، قبل أن يسترحمها من خلف اسوار صعدة بالنسب الذي  يربطه بالنبي، بينما لم يتوقف عن استنجاد المهاجرين- كما كان يطلق عليهم- من وراء البحار..
 
لعل الكف عن "الرسّي" كانت الخطيئة الأولى لليمني، قبل أن يرتكب أخرى ويضع ثقته في الإمام مجدداً من خلال الوثيقة التي جمعته وغالبية قبائل اليمن بهدف القضاء على "علي بن الفضل"، والتي أكد فيها على انصياعه لكافة بنودها، وعدم رغبته في حكم صنعاء، حتى انطلقت بشائر النصر بتراجع ابن الفضل في العام ٢٩٧ هجرية، لينقلب "الرسّي" على رفاق الحرب بسيطرة الطبرستانبين على صنعاء، ملقياً ما تعاهد عليه خلف ظهره..
 
لم يكن الإنتماء المذهبي، او القبلي، أو حتى الجهل وطيش الشباب، هو ما جعل الحسن الهمداني يحكم على الهادي الرسّي. كان الرجل هو من وصم نفسه بالعديد من المواقف الشائنة، قبل أن يطلق الغير أحكامهم عليه، ويُطرد مجدداً من صنعاء، جاراً أذيال هزيمته وخيبته، حتى توفي في صعدة العام التالي، ليخلفه الأضعف من أبناءه..
 
لم يكن مشروع الإمامة ليتضح من خلال شخصية مختلة التصرفات. وعلى الأغلب أن الهمداني، وغيره، وجد في صراع أبناء الرسّي نهاية محتومة لطموحات "طاغية مشرد"، قبل أن يعطيها ظهره في عامه الخامس والعشرين، ويشد لجام راحلته نحو مكة للحج وطلب العلم، دون ان يدرك بأن جولات صراعه مع الإمامة كانت تنتظره بعد سبع سنوات من تلك اللحظة..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر