الوباء الحي!..‏


نور ناجي

  مازلت أتذكر النظرة التي رمقتني بها والدتي حين سألتها عن أعراض المرض المفاجيء ‏الذي ‏إصاب "عمتها صفية"!..‏
 
‏ يبدو أن المرء يسقط الذكريات السيئة ويعوضها بالمريح. "فصفية" لازالت الأجمل في ‏ذهنها، ‏رغم مرور عشرات السنين منذ دفنت، وغيرها، في جبانة القرية. هذا ما ذكرته والدتي ‏متجنبة ‏إجابة سؤالي!.‏
 
عرف عن اليمني تفاعله مع أخبار العالم بإهتمام، وربما بحّدية لا مبرر لها، حتى تعتقد ‏أن ‏انقراض "النمر السيبيري" تهديد مباشر له! إلا أن ذلك التفاعل كان بارداً مقارنة بالقلق ‏العالمي ‏لانتشار فيروس "كورونا"!.‏
‏  ‏
لا أعتقد أن تأكيدات وزارة الصحة، بخلو اليمن من الإصابات، سبب اطمئنانه واكتفائه ‏بمتابعة ‏خط سير الوباء ببرود، وقد وشت ملامح البعض بسخرية مبطنة أمام إجراءات السلامة ‏التي ‏أخذ العالم يتخذها. فليس بحاجة لحدس عالٍ حتى يدرك عدم وجود منظومة حقيقية للحماية ‏من ‏الوباء، أو حتى احتوائه على أرضه!.‏
 
يحدث أن يحاصرك الماضي والواقع بمتلازمة غريبة، لا تكاد تغادرك حتى تعود ‏وتفرض ‏نفسها عليك قائلة بسخرية: "لا فكاك!!". فحتى سبتمبر ١٩٦٢م، لم تكن "الأوبئة" ‏منفردة من ‏تحصد أرواح اليمنيين، فقد كان المرض- مجرداً من كونه "وباء"- كفيل بالتفاقم ‏والقضاء على ‏الآلاف نتيجة عدم وجود أبسط قواعد الرعاية الصحية التي كانت محصورة على ‏‏"حكام ذلك ‏الزمن وعائلاتهم"!.‏
 
بعض الأرقام تشعرك بالخجل، حتى أنك تدهش من الأفواة الوقحة التي تحدثك عن ‏‏"إمام ‏عادل"، أو "إمامة" تؤكد حرصها على العدالة!!. فقد أشارت الطبيبة الفرنسية "كلودي ‏فايان" في ‏كتابها "كنت طبيبة في اليمن"، إلى أن 50 ٪ من المواليد اليمنيين كانوا عرضة ‏للوفاة إبان حكم ‏احمد حميد الدين، سواء كان ذلك نتيجة سوء التغذية أم انعدام الرعاية الصحية ‏لكل من الأم ‏وطفلها.‏
 
نسبة ثقيلة ولا بدّ، إلا أنها الثمن المقابل لكونك "أم" في ذلك الماضي. لا أعلم إن توجب ‏على ‏أمهات اليوم احتساب نسبة ما، مقابل التاريخ الذي لا يريد إلا إعادة نفسه!!. ‏
 
لم تنحصر معاناة اليمني في الأوبئة فقط، فلم تكد مجاعة تغادر أرضه، حتى تتقلص ‏أمعاؤه ‏لأشابح أخرى قادمة، كان بإمكان الكثير النجاة منها لولا ما سنت الإمامة من أتاوات ‏لإبقاء ‏اليمني في الفقر المدقع. "من عاش فهو عتيق، ومن مات فهو شهيد"، بتلك العبارة ‏الساخرة ‏أخفى الأئمة وسيلتهم في إنهاك اليمني، وللتقليل من نسبه ثوراته ضدهم..‏
 
تغير الكثير منذ العام ١٩٦٢م، إلا أن النقص الذي يشعر به البعض تجاه امتلاك اليمني ‏لحياته، ‏تجعله يحاول بكل جهد العودة إلى الخلف..‏
 
قد يكون المرض الحقيقي، الذي مازال اليمني يعانيه عبر مئات السنين، هو "الإمامة". ‏الوباء ‏الحي الذي يكشف عن نفسه بين الحين والآخر، وقد رأى في حياة اليمني"منحة"، بركته ‏فقط من ‏تسبب في وهبها له!!. وكما سلب من اليمني في الماضي حقه في حياة كريمة، أو حتى ‏مجرد ‏حياة، يعود اليوم بوجه قبيح لا يختلف عن وجوه أسلافه. ومازل البعض يتسائل عن سبب ‏عدم ‏مبالاة اليمني "بكورونا"؟!.‏
 
لم يعد اليمني يملك الوقت الكافي للانشغال بالفيروسات الجديدة، بينما القديمة مازالت ‏تحاول ‏الفتك به!!. كما أن العزلة الإجبارية، التي فرضت على شعب بأكمله نتيجة حربه ضد ‏‏"الوباء ‏الحي"، منحته مناعة يحتاجها الآن غيره. لعله وجد أن الأجدى به وضع كوفيد "التاسع ‏عشر" ‏ضمن الأقدار التي يجب عليه استقبالها برضى: لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، فما ‏يحمله ‏اليمني من ماض وحاضر يجعله مؤهل لاستقبال أي زوار جدد!.‏
 
لا تعتبر الفيروسات كائنات حية؛ مازالت أجساما لم يتمكن العلماء حتى اليوم من إيجاد ‏تعريف ‏مناسب لها. إلا أن اليمني أجبر على التعايش مع أوبئة حية تسير على قدمين.‏
 
‏ ربما لم تكن والدتي بحاجة فعلية لمهارتي في معرفة مصاب قريتها، فقد كانت تدرك مسبقاً ‏أن ‏الأوبئة الحية هي الأشد خطراً، والمتسبب الفعلي لكافة خساراتها!!.‏
 
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر