شروط النصر..


نور ناجي

لم يكن قد مضى وقت طويل على طرد "بني النضير" من المدينة، ومنح الدولة الناشئة قوة هيأت لها إمساك زمام الحكم، حتى وصلت أنباء تحالفات قريش واستعدادها للغزو، ليقف المسلمون على خطورة مواجهة غير متكافئة في أي أرض مفتوحة، فكان التحصن خلف خندق- غير مضمون- هو رهانهم للنجاة.
 
ليس من السهل ملازمة الخطر، إلا أن الكثير من الأزمات لا تتخطى كونها عملية اختبار وتصحيح للأفراد والمجتمعات على حد سواء. قال تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ".
 
ما أن أخذ المسلمون يحفرون خندقهم حتى اجتاحت المدينة أزمة اقتصادية أدت إلى نقص حاد في المؤن والغذاء. كان بإمكان "قائد المعركة" الاستفادة من مميزات موقعه ومكانته- لم يكن أحد ليمانع- لكنه أصر على مشاركة جنوده معاناتهم اليومية. فعندما احتاج أحد الجنود ربط حجر على بطنه، لم يقبل الرسول "ص" إلا بمضاعفة نصيبه من الحجارة.
 
لم يتوقف قائد المعركة الوشيكة عند عملية انشاء الخندق، فأمامه مهام لا تقل أهمية عن تهيئة أرض المعركة: إبرام معاهدات مع "بني قريضة" لتأمين ظهر المدينة. وإن لم يكن على ثقة من وفائها، لكنها كانت خياره المتاح. كما أمر بجمع نساء المدينة وأطفالهن في "حصن فارع"، وشدد على إغلاق ابوابه، فقد كان "ص" ابن بيئته المقاتلة، ويعلم أن اطمئنان الجندي لأمن عائلته وسلامتها سيكمل جاهزيته أمام عدوه.
 
أعطى المسلمون ظهورهم للرياح الباردة، ولجبل "سلع"، أكثر الجبال منعه حول المدينة المنورة. واخذوا يحفرون في الجهة الشمالية المكشوفة، التي سيقف عليها غير بعيد الآلاف من مقاتلي قبيلتا قريش وغطفان ومن تبعهما.
 
أي موقف صعب؟! حتى أعتى الرجال لم يكونوا ليستهينوا به. لن نجد أكثر بلاغة من وصف الله سبحانه وتعالى لحالة المسلمين حينها: "إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا". هل يعقل أن تراود الظنون صحابة الرسول؟! أيدخل الشك قلوب الكوكبة الأولى التي تحملت في سبيل الدين من التعذيب والتجويع والتشرد القسري ما لا يتحمله غيرها؟!..
 
مازلنا نتحدث عن رجال يحملون ذات النفس البشرية التي نحملها، ولم يكن العجز الذي شعروا به أمام عدو لا يرحم بالأمر الهين. أغلب الظن أن قريش لم تكن تمانع في قصف المدينة بأشد الأسلحة فتكا إن تمكنت. لذلك سارع الرجال برفع أحمال التراب وهم على يقين بتجاوز دوافع قريش مرحلة الانتقام المنفعل، أو الطمع في وعود تلقتها من اليهود. مازالت الدولة الجديدة في المدينة تمثل لأيدولوجيتها تهديداً مباشراً توجب التخلص منها.
 
"هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا"، لا تختلف زلزلة النفوس عن هزات الأرض العنيفة، التي لا تبقي عليها سوى الأساس الصلب. ونحن أمام معركة لا بّد من إعداد ساحتها وإخراج غثها. ومثل تلك الرجفة في قلوب المقاتلين ستسقط منها كل ركيك وقابل للكسر. لا مطامع مادية في النفوس، أو مناكفات حاقدة بين مقاتل وآخر جواره، كما لا مكان لأصاحب الهوى والمصالح المتضاربة.
 
لم تقتصر المخاطر المحيطة بالدولة على تلك القادمة من الخارج. فالداخل يحمل العديد من الرافضين للدولة التي ترأسها "غريب" متهم بجلب الشؤم. ولن تجد تلك الفئة أكثر ملائمة من هجوم وشيك لإخراج ما كانت تخشى إخراجه من قبل: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلا إِلَّا غُرُورًا"
 
يعتقد البعض أن الحرب تخرج أسوأ ما فينا. في ذلك الكثير من الصدق، لكن الحرب في ذات الوقت تمنحنا رؤية الحقيقة في أوضح تجلياتها، وقد كان العدو- المتمترس خلف خندق المسلمين- أقل خطراً من غدر آخر يتخفى بينهم، انسل بحجج واهية قبل بدء المواجهات الفعلية مع قريش: "يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ  إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا"..
 
لم يكتفِ الهارب والمتخاذل بنفسه، فمازال يدعو غيره لترك المعركة في حرب نفسية لا تقل خطورة عن تلك التي يقودها المقاتل في الجبهات. أغلب الظن أن عبارة: "لسنا المقصودين بهذه المعركة!" قد استخدمت كثيرا على مر التاريخ: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا"..
 
خصص القران الكريم الكثير من آياته لشرح أسباب كسب المعارك أو هزيمتها، لكنه ترك لأحداث غزوة الأحزاب من الشروط الكثير للحصول على النصر.
ايمانك بالحق الذي تحارب لأجله هو السلاح الأهم أثناء الحروب، لكنه ليس الوحيد.
 
كثيرة هي التفاصيل التي تقف بينك وبين نصر تستحقه، وقد أدرك المسلمون في غزوة الخندق ذلك، وجاهدوا للتخلص منها ما أمكنهم ليهتفوا لحظة التقاء الجمعان: "وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمانًا وَتَسْلِيمًا"..
 
لم تزد الفترة الزمنية بين "وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا"، وبين "وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمانًا وَتَسْلِيمًا" أكثر من بضعة أسابيع، لكنها كانت كافية ليعي المسلمون شروط النصر المستحيل..
 
ومازال اليمني بعد خمس سنوات من الحرب مستمر في تكرار أخطائه وبكل جداره!
 
فبرغم اتفاقنا على خطر مليشيا الحوثي المشترك، نتبارز بيننا البين في التخوين، والتشكيك، ونشر الاشاعات. نجتر خطايا الماضي في مكايدات رخيصة تصل حد الشماتة دون النظر لتساقط أرضنا أشلاء، متراخين عن نصرة دولة على وشك الضياع لحسابات تصب في مصلحة العدو..!
 
ويبقى الفساد هو الصفة المميزة للقائد والمسؤول. ينام الجندي مكشوف الظهر بينما يرقد قادته تحت ألحفة أغلى فنادق العالم وعقاراتها. تلقى موائد مسؤولي الدولة في براميل القمامة بينما تباع التغذية المخصصة للجنود في الأسواق السوداء، دون أن ينال هو أو أهله ما هو حق لهم.
 
لا مجال للسرد، فقد تفوقت خطايانا عن تلك التي وقعت خلف خندق المدينة المنورة، وحتى اللحظة لا نتوقف عن بلادة طرح سؤال نصر لم نستحقه بعد!.
 
ركونك على أنك أقل قبحاً من عدوك، لا يجعلك جدير بالنصر، كلاكما على وشك الهزيمة.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر