متلازمة "شرف الدين"!..


نور ناجي

  كان يشعر بالسقم، مازال متحصنا في "حصن الظفير"، أعلى حجة إلا أن ذلك لم يمنحه الشعور بالأمان؛ لا طمأنينة حقيقية خارج أسوار صنعاء. يعرف ذلك جيدا، كما كان يدركه أجداده الذين لم يتوانوا لأكثر من مائتي عام عن حربهم ضد الدولة الرسولية، استنزاف باهظ جنى غيرهم مكاسبه!..

ورث الطاهريون دولة بني رسول كل من السلطة والنفوذ، بالإضافة إلى كافة إيرادات الضرائب والتجارة، والتي كان يفترض بها أن تصب في خزائن الأمامة. ليس ذلك وحسب، فمازالت المعاهد العلمية "الكافرة" التي انشاءها الرسوليون تهدد بفناء قريب، إن لم يتم تدارك الأمر..
 
"لا بد أن  يجد حلا ؟!"، تمتم الإمام المتوكل يحيى شرف الدين بن شمس الدين، قبل أن يبتسم ساخر: "أي إمام هذا الذي لم تتجرا القبائل الموالية له بالمبايعة!"؛ ما فائدة الألقاب والإمامة دون أنصار وشيعة، ودون "الشعور بالأمان"!.

واجهت الدولة الطاهرية في منتصف القرن الخامس عشر الكثير من المخاطر، أهمها الصراع الخارجي الساعي لفرض السيطرة على طريق التجارة البحري، والذي كانت السواحل اليمنية وموانئه أهم مراكزه. ومن جهة أخرى لم تسلم من التمرد الذي كان يقوده الأئمة الداعين إلى أنفسهم بحقهم الإلهي في شمال البلاد ..
 
إلا أن ذلك لم يجعل الملك "عامر بن طاهر" يقبل بالغزو المبطن الذي ساقه إليه "حسين باشا كردي"، القائد الأول لأسطول الشراكسة، تحت مسمى "طرد البرتغاليين الغزاة على الدولة الإسلامية"..
 
للبرتغاليين مطامع كبرى، لكنها لم تمنع الملك الطاهري من التقاط رائحة غدر المماليك، تعددت المسميات والغزو واحد!..
 
سمع الإمام "شرف الدين" بالخلاف القائم بين الطاهريين والمماليك، ولم يكن ليترك تلك الفرصة تفلت من يده، إن لم يمكنه ضعفه اليوم من العودة إلى صنعاء، لا بأس من الاستعانة بالغريب، وبدأ الرجل فعليا بمراسلة المماليك!.

أبدى القائد الشركسي المرابط، وقواته، في جزيرة كمران اهتمامه برسائل المتوكل، على الرغم من عدم تأكده من ولاء الرجل، إلا أنه وجد في انضمامه المحتمل تأديباً مناسباً للسلطان "عامر بن طاهر"، وعذر أخلاقي قد ينطلي على أهالي الأرض التي سيقوم باجتياحها، كما أن أي صراع قادم مع البرتغاليين سيكون أسهل حين تملك قواعد قريبة..

لعلنا نخطىء الظن، ولم تكن مراسلة  المتوكل ل"الغزاة الكرام"- كما أطلق عليهم- إلا ليقينه بأنهم مدافعين مخلصين عن الإسلام الذي كان يتعرض لحملة  شرسة من أعدائه البرتغاليين. نقول ذلك باحثين عن عذر ينقذ الرجل من  وصمة خيانة لأرض ولد وتربى من خيرها، حتى نتوقف أمام ما ذكره المؤرخ الروسي "نيقولاي إيفانوف" في كتابه "الفتح العثماني للأقطار العربية"، والذي لم يستبعد فيه تحالف الإمام شرف الدين لكل من الصفويين والبرتغاليين، الذين رأوا فيهم حلفاء مخلصين وتوقفوا عن اعتبارهم أعداءً منذ عام 1513م!..
 
لم تكن صنعاء عاصمة مثالية للكثير من الدول التي أقيمت على أرض اليمن. مازال الطريق إليها صعباً، وابتعادها عن السواحل يمثل عيبا خطيرا لحاكم يخشى على حدود بلاده أو سواحلها. إلا أن الإمامة تمسكت على الدوام بصنعاء. لن تجد أسطول بحري أو جيش مترامي الأطراف أقامه إمام على مدى السنوات التي حكموا الأرض فعلياً، كافة التمردات الداخلية تقمع بواسطة أبناء القبائل، كما أن المخاطر الخارجية لا تمثل تهديدا مادام الأمن مستتب بالمدينة الحصينة..

اعتادت الإمامة أن تحكم من وراء قرى ومدن "محصنة" أو من وراء جدر، ولم تمثل لها صنعاء تلك الأهمية إلا بسبب ما تملكه من تحصين جغرافي أو بشري عبر القبائل المحيطة والتي تمكنت من اختراقها والتحكم بها مبكراً..

على عكس المناطق المفتوحة أو تلك البعيدة عن تحصيناتها والتي كانت على الأغلب عبئ مزعج بمناخ قابل للتمرد، فلا ضير من مقايضته بين حلفائها حال القوة أو خسارتها حال ضعفها..
 
استمر "المتوكل" بتأكيد وعوده للمماليك، حتى انضم مع القبائل الموالية له للقوات التي أخذت تنزل أسلحتها النارية إلى السواحل اليمنية، لتنطلق المعارك سجالاً..
 
حاول الطاهري تخفيف وطأة الأسلحة النيرانة- التي لم تكن معروفة لليمني بعد- باستدراج الغزاة نحو المرتفعات الجبلية إلا أن الأيادي الغادرة كانت له بالمرصاد، بعد أن خذلته كثير من القبائل المنضوية تحت لوائه، وتركته يحارب وحيدا، بينما أخذت هي تجري حساباتها في الربح والخسارة التي قد تجنيها حال مساندتها للمحتل..

انتهت المعركة بمصرع الملك المظفر وأخيه وهما يصدان الغزاة عن مدينة صنعاء، وسيطر المتوكل شرف الدين على صنعاء بعد أن تحصن خلف أسوارها، لم يكن ليبالي بمحاولة البقية من أمراء بني طاهر إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرض، على الرغم من رفعه سلاحه هو الآخر ضد سيطرة المماليك على صنعاء، فالحصول على المدينة كانت معركته الحقيقية، جائزته الكبرى دون غيرها، ولن يتنازل عن ذلك الحصن في سبيل وحدة أرض، أو ثأرا لدم يمني كان المتسبب بنزفه في المقام الأول..
 
لا بأس بعدها من أي معارك سيجبر على خوضها، سواء مع أئمة يجدون في أنفسهم الأحقية في الإمامة، أو مع آخرين لا يختلفون عنه بتحالفهم مع المماليك، "ليس في الأمر عدالة إلهية ضده!"، يقول في نفسه، وقد أدرك ان المتلازمة التي أصابته من قبل أخذت تعيد دورتها من جديد على أئمة غيره..
 
مازالت الإمامة بخير حتى تغادر صنعاء، ما أن تفقد أسوارها وطمأنينتها حتى تصاب بحالة من الهلع. وليس تقوقعها في الحصون النائية سوى مرحلة من التأهب والإعداد لموقعة جديدة، دون أن تهتم أو تبالي بالخسائر..
 
"دائرة مرضية" لم تكن الإمامة مسببتها منفردة بقدر ما شارك اليمني بها، سواء عبر  الفرقة والانقسام، أم تغليباً لمصالح أنانية بعيدة كل البعد عن مصلحة الأرض والوطن..
 
لا يعيد التاريخ نفسه كما نظن، بل يمرر عبرنا بعض النكات التي وجد فيها مادة مسلية ومناسبة للسخرية علينا..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر