زمن "علي مقلي"


نور ناجي

  "أي حال صعبة نحياها. مازلنا نتذوق مرارة العيش وحربا تجاوزت الحرب العالمية الثانية بعدد سنواتها، ولا ضوء يبشر بأمل، أو حتى لا يقيناً من إيقاف سقوط لا قاع له!!".
 
لا يكاد اليمني ينهي بكائياته حتى يشعر بمن يربت على كتفه: "أرجو المعذرة، لم الشكوى، فليس ما يجري عليك هو الأول، هل نسيت زمن "علي مقلى؟!". كان ذلك صوت التاريخ الذي لا ينفك عن إلقاء دروسه، ولا نكف نحن عن نسيانها!..
 
ربما يتداول البعض لفظ "علي مقلى" من باب السخرية والتندر، دون أن نجهد أنفسنا في معرفة أصل الكلمة، أو معرفة "صاحب المقلى" الذي أطلقت عليه، لذلك يجدر بنا العودة إلى منتصف القرن الثامن عشر ميلادي، والتي وصفها الشاعر "القارة" في مطلع إحدى قصائده:
 
ضاعت الصعبه على الخلفاء
خبط عشواء والسراج طفا
لا تصدق أن ثم وفا
حسبنا، لا إله إلا الله..
 
لبجوا في كل أرض وما
أمروا عرباً ولا عجما
إنما هم في عمى وضمى
حسبنا، لا إله إلا الله..
 
كانت الإمامة قد نقلت مركزها من صعدة قبل ذلك التاريخ، وثبتت حكمها في قلب صنعاء، لتمتد الى ما حولها لفترة لا بأس بها، بعد أن فشل "الرّسّي" ومن جاؤا بعده في إبقاء سيطرتهم عليها لفترة طويلة. فقد كانت صنعاء على الدوام سلاحا ذا حدين، بالرغم من موقعها الجغرافي الذي هيئ لها أن تكون نقطة الاستيلاء على بقية أراض اليمن؛ إلا أن تلك القوة لم تساعد حاكمها على يقين التمسك بها منفردة في لحظات ضعفه:
 
قالوا إن الجن قد حضروا
في القرانع للبقر عقروا
وبشغل الكيمياء سبروا
كم ذهب، لا إله إلا الله..
 
والخلايق كلهم رغبوا
وبنو قيس احتبوا جدبوا
والضريبه، كل يوم ضربوا
كم دسوت لا إله إلا الله..
 
من مفارقات الإمامة وتاريخها الدامي في اليمن، أنها لا تكاد تنتهي من إخماد ثورة اهلها ضدها عبر طرقها التقليدية، حتى تبدأ صراع عجلة حروب أشد وطأة بين أفرادها. كيف لا وقد امتلأت أزقة المدن والمتربصين خارجها بالعديد من الذين لا ينقصهم سوى السيف لنيل مبتغاهم. وما أخف ضرب السيوف في سبيل إشباع شراهة الحكم. لذلك كان لابد من أن يقول الشاعر تلك الحقيقة:
 
وشياطين البلاد أتوا
 بعد ما قد أفسدوا وعتوا
 إبصروا جواء الكلام هتوا
 وإلخ، لا إله إلا الله..
 
والكتب من كل فج عميق
 والهواتف في شهيق وعقيق
 والغرايم في مرض وصقيق
 زيق ميق، لا إله إلا الله..
 
والذي في السر كان إماما
 قد نبع منها بعير كلام
 ورجع يزحر بغير وحام
 ونزق، لا إله إلا الله..
 
انساق أئمة ذلك العصر بغواية الإمامة، دون أن يبالوا بالمخاطر المحدقة حولهم، وانشغلوا بصراعاتهم الداخلية والاقتتال الذي لم يكن يتوقف، بينما استسلمت المدينة المغلوب على أمرها للواقع الذي بدى وكأن لا نهاية لنفقه:
 
وابن شمس الحور في غربة
قد دعا حتى جته شحبة
وخرج منها إلى الرحبة
لا لشيء، لا إله آلا الله
 
والإمام محسن إمام عظيم
بالخلافة والشروط عليم
وهو في حصن الغراس مقيم
منتظر، لا إله إلا الله
 
كلهم قاموا بغير ركب
من ملك رطلين نحاس ضرب
والوقيد قالوا كبا وقصب
وقشاش، لا إله إلا الله..
 
ستجد إماما يبحث عن لقب مناسب بعد أن استهلك من سبقه غالبية الألقاب. هل يعيد استخدام "المتوكل بالله" ، أم أن "الغالب لأمر الله" أفضل؟! "المنتصر" أم "المنصور"، "الهادي" و "المهدي"؟! حتى سمع أحد أهالي صنعاء، بحيرة، الامام الجديد ليقول باللهجة الصنعانية، وبروح فكاهتها البسيطة: "سيكون لقب الامام "التعوذ بالله" جيدا؟!"..
 
واستمرت تلك الصراعات خاصة أن تكلفتها لم تكن جائرة وفق معاييرهم، لم يأتِ المثل الشعبي المتداول: "الحجر من الأرض، والدم من رأس القبيلي" من فراغ..
 
كلها في ذنب أهل أزال
عيفطوا عيفاط بغير كلام
واستهلوا للفساد هلال
مدبرين، لا إله إلا الله..
 
من دعاهم للصلاح منعوا
في النهايه طول ما هجعوا
ما رضوا يرزوا ولا خنعوا
في جغير، لا إله إلا الله..
 
دخلت اليمن بكافة مناطقها فوضى، فاقت بكثير الفوضى التي نحيا بها في العصر الحالي. لم يكن مستغربا بين أفراد الشعب تعدد الأئمة، حتى نصب خمسة أئمة أنفسهم حكام لصنعاء، في وقت واحد. أو ربما لن تجاوز نيل أحدهم اللقب يوم واحد، بعد أن أمسى للعمامة ومقعد الحكم ثمن لا يتجاوز بضعة قروش:
 
وأمير المؤمنين معيض
قد فعل فيها طرق وفريض
شاربه قالوا طويل وعريض
مجعلي، لا إله إلا الله..
 
ورعا يا ذا الزمان همج
خلو الدنيا ملان رهج
من دعاء الامام ضحك وزبج
عسبوا، لا إله إلا الله..
 
تؤكد المراجع أن القصيدة، الموزعة بين السطور أعلاه، كتبت في زمن المنصور علي بن المهدي عبدالله، والمولود من جارية حبشية، والذي قيل أنه تولى الإمامة أربع مرات بعد وفاة والده. وقد تناقل عنه العامة وصف: "الأبلة في صورة الحاذق". فقد كان خالي من المؤهلات، ولاهيا في حياة الترف والعبث مع الجواري تاركا أمر الحكم لنواب لا يسألهم أو يحاسبهم على شيء، ليمنح لقب "المقلى" بجدارة، قبل أن ينقلب عليه عسكره ويقبضوا عليه في إحدى حدائقه ويودع السجن، ولم يكن قد أكمل العامين بعد من حكمه، وتزداد بعده وتيرة الانقلابات:
 
لاحت الفرصه لأهل جدر
لعبوا بالناس عدر دعدر
شمخوا فوق الصيد وخمر
ووايله، لا إله إلا الله..
 
ودغيش المام حق شعوب
في كلام جابر وشوع وزوب
والمراتب والخيول سنوب
عقل تيس، لا إله إلا الله..
 
لم يؤدي الانقلاب على "علي مقلى" إلا إلى مزيد من فوضى الطامعين، الذين أخذوا يتنازلون عن أرض اليمن قطعة قطعة في سبيل إبقاء العمائم على رؤوسهم، حتى تحركت قوات الاحتلال العثماني نحو اليمن، وقد فتحت لها أبواب عودة جديدة، 1872م. لم تكن المطامع التي تنازلت عنها إبان خروجها الأول هي سبب العودة وحسب، بل عززتها النداءات المستغيثة التي اخذت تنطلق من أهالي صنعاء ورجالاتها وبعض أئمتها ايضا، وقد وجدوا أن نار المستعمر قد تكون أهون من نيران الأئمة..

لعلك تسمع وانت تقرأ هذا الجزء من التاريخ صدى هتافات على شاكلة "شكرا عصمالي!":
 
قلبوها اليوم ضرب سقل
وقطع من نار وهاد وجبل
ذا نهب هذا فلان قتل
جيبره، لا إله إلا الله..
 
قتلوا قوبل بغير سبب
وحسين لما علم وطلب
وارثه قال لو فعلت عبب
كان بخير، لا إله إلا الله..
 
مثل فاعل لاش ليت عليه
صكوا النوعه وقمحذويه
بقباقب في صوابريه
الخضيع، لا إله إلا الله..
 
واستمر الحال، حتى سقطت عدن هي الأخرى، والتي كتب التاريخ أن سقوطها كان مرهونا بسقوط صنعاء تحت حكم الإمامة، وأمست تحت سيطرة الاحتلال البريطاني 1893م، ليبدأ بعدها نضال اليمني ضد الاستعمار والامامة والتي استمرت عشرات السنين، قبل أن تنتهي الحكاية!!..
 
كلا، لم تنتهِ الحكاية بعد. فها نحن نقف مذهولين أمام دائرة الزمن التي أكملت إحدى حلقاتها، لترجع بنا إلى زمن أسوأ من زمن "علي مقلى" وحماقاته. ربما لم ينحصر "علي مقلى" هذا العصر باصحاب العمائم، بل امتد ليشمل مرتدي البدل وربطات العنق الأنيقة. لكن ذلك لم يمنعنا من إستعارة "أبيات القارة"، وهي تختم نفسها بكل سخرية وأسى:
 
كيف تقع دنيا بغير إمام
كيف يقع ننهم حلال وحرام
كيف يقع نعرف ضيا وظلام
كيف يقع، لا إله إلا الله..
 
كم لنا من قطع راس بقتيل
كم لنا من قطع كف جميل
كم لنا من ربط كل ثقيل
كم لنا، لا إله إلا الله؟!..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر