صانع حلوى


نور ناجي

يحدث أن تشعر بالإحباط، بالكآبة، لكن مثل هذا الأمر لم يعد بالمصاب الجلل، فعادة ما تصبح الكآبة عادة مع مرور الوقت، نشتاق اليها حين تغيب ونستدعي بعض منها عن الحاجة خاصة وقد تعلمنا تخفيف وطأتها بقطعة من الشوكلاته!.
 
لكن, ماذا لو أن شعب بأكمله أصيب بالاكتئاب، بعد أن فقد إمكانية تعريف الحرب الواقعة عليه، احتاج اليمني بضع سنين ليتمكن من توصيف الحرب المقامة على أرضه، فكان " نصف حرب ونصف سلام"، تعريف ملائم قبل أن يشهد المتغيرات العبثية الأخيرة.
 
حلفاء الامس لم يعودوا حلفاء أو ربما مازال البعض منهم؟!، من يدري؟!، وقد أصبح الفعل وعكسه هو ما تقوم به بعض أطراف التحالف وبكل فخر..نظرياً مازالت تحارب من أجل عودة الشرعية، وعملياً انقلبت عليها بشكل علني وواضح ضد ما تدعو له وهي تقوي دعائم انقلاب جديد!.
 
قد يكون السؤال الملائم هو: كم عدد قطع الشوكولاتة أو الحلوى التي قد نحتاج إليها!!، لا بدّ وأنا سنستهلك الكثير، إلا إن تمكنا من العثور على صانع حلوى يجيد عمله!.
 
كانت ستينات القرن التاسع عشر على موعد مع " محمد عبد الله المحلوي" صانع الحلوى الأول في تاريخ اليمن المعاصر، الرجل الذي تجاهلته ثرثرة التاريخ ومرت عليه مرور الكرام، لتضعك في حيرة من أمرك، هل كان ذلك التجاهل مقصوداً، أم إن الرجل سقط عفوا من دفاتر التاريخ وكتبه، فمهما اجهدت نفسك في البحث عنه لن تجد سوى القليل، ربما كانت صنعته هي الصفة المتداولة له، وكأن القدر ابقاها لعلمه بحاجة اليمني لها في مستقبل مكتظ بكل أسباب الاكتئاب والإحباط.
 
كان العلم هو التهمة التي التصقت بمحمد عبدالله المحلوي مبكراً، فلم يكتفي الصبي بسنواته في " المعلامة" بل أصر على دخول المدارس العثمانية عدة سنوات قبل أن يرغمه أهله على تركها، لكن ذلك لم يجعله يتوقف عن المطالعة والاجتهاد عبر كل ثغرة علم يجدها، وعلى الرغم من قلة تلك المنافذ أمامه إلا أنك ستجده قد حفظ التوراة وأجاد العبرية المتاحة له بجوار التركية، كما تعلم الفلسفة والتاريخ وأمور الدين والفقه كأكبر علامة دون أن يتوقف عن البحث والاطلاع في شؤون العالم وأبرز أحداثه وتطوراته.
 
عارض العثمانيين قبل ثورات اليمنيين المتعاقبة ضد حكمهم، كما جاهر لاحقاً بمعارضته  للإمام يحيى قبل أن يتوقف، وقد أدرك بالمعضلة التي ستواجه أي تغيير قد ينشده هو أو غيره .
 
لم تكن معاناة اليمن من الجوع والفقر والامام الظالم هي مبعث اليأس التي قد يصاب بها أي قارئ للتاريخ اليمني في تلك الفترة وحسب، بل كان على رأسها القناعة التي تجرعها عبر مئات السنين بأن جميع ما يقع عليه من أهوال ومصائب هي إرادة الله التي يتوجب عليه قبولها والدفاع المستميت ضد أي محاولة للمساس بها، لذلك وجد المحلوي وجوب الاتجاه نحو اليمني ومحاولة توعيته للبدء في مشروعه التحريري.
 
ترى ما الذي كان يفكر به صانع الحلوى وهو يقف على اناء طبخه، لم تكن الحلوى فقط، بالتأكيد كان يبحث خلال نضجها عن الطريقة الأنسب لإيقاظ أكثر عدد من العقول، وقد تكون شعلة موقده القديم هي من امدت قضيته بإيمان مطلق جعله الأب الروحي لغالبية مناضلي ثورة 1948 م ومن بعدها ثورة 1962م كما أجمعت مذكراتهم.
 
اتخذ الأب الروحي أسلوب بسيط لمناقشة قضيته، دون أن يميز بين مثقف واميّ، لم يراعي تباين الأعمار ولم يقف أمام اختلاف الطبقات الاجتماعية، كل تحدث له بالأسلوب الذي وجده مناسب له، فعلها وحيداً خلال سنوات طويلة، أخذ على عاتقها الرفض الساخر والتهم والنبذ، ودون أن يتلقى دعم من جهة أو حتى مجرد اطمئنان لمن يحمي ظهره.
 
سأله أحدهم يوماً :" أفنيت عمرك وما تملك وأنت على هذا الحال، ولم تحصل إلا على السخرية والاتهامات المهينة، فأجاب عليه مبتسماً وكأنه يحدث طفل يقف على دكانه يسأله قطعة من حلواه:" إن لم انل منه شيء اليوم، "فحزوية طعيمة"!..
 
إلا أن تلك " الحزوية " لم تبق مجرد تسلية بعد أن تأثر بها الكثير، وانضموا الى قضية محمد المحلوي وأهدافه النبيلة حتى وصل صداها للإمام يحيى، الذي شعر بوجوب إسكات ذلك الصوت، القي القبض على صانع الحلوى ورفاقه واودعوا السجن شهور طويلة بتهمة الزندقة والكفر، قبل أن تنتشر تساؤلات الناس عن منطقية تلك الاتهامات، حاول الامام طويلا اخراج الرجل المسن من محبسه بعد أن اصابه المرض وطالته الانتقادات، فاشترط عليه مغادرة صنعاء في سبيل إخراجه من السجن، لم يأخذ المحلوي وقت للتفكير ورفض العرض، حتى أضطر الإمام لإخراجه ولم تكد تمضي بضعة أيام حتى أنتقل الأب الروحي محمد عبدالله المحلوي إلى بارئه، ويقول العزي صالح السنيدار في موته: " مات محمد المحلوي الذي كان له الفضل في إخراجي من عالم الجمود إلى عالم الحرية، المجاهد الصابر الذي لقي الأمرين في سبيل لإيقاظ هذا الشعب النائم".
 
لا يختلف الإمامين الجدد عن من سلفهم ومازال العلم هو العدو الأول لهم، إلا أنهم أصبحوا أكثر حذرا فيما يخص صناع الحلوى، فلم يعد من السهل تمرير " حزوية " لطيفة إلى قلوب الناس، "نحن خياركم الوحيد !!" يقولها الحوثي ويؤكد عليها مرارا لمنع تكرار أخطاء الماضي، وابقاء الناس في حالة من الاكتئاب الذي قد يقود لليأس والاستسلام وليس أخطر على الشعوب من الإصابة بها.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر