الورقة الخضراء لليوم الأسود


فكرية شحرة

 
عدت إلى البيت؛ وعادت الورقة الخضراء لتستقر في يدي؛ قلبتها بين أصابعي وأنا أحدج في صورة الرجل حاسر الجبين المرسوم عليها بغرابة !!
 
قبّلت الورقة بامتنان صادق، ورفعتها إلى أعلى رأسي، كما كنا نفعل ونحن صغارا إذا وجدنا على الأرض قطعة خبز أو وجدنا المصحف في مكان لا يليق به.
 
كنت قد خرجت مسرعا من الشقة التي أسكنها في أحد الاحياء الشعبية في القاهرة، فهناك من ينتظرني لمناولتي بعض الأغراض وهو على عجلة من أمره. كنت أخشى أن اتأخر فيستقل الباص ويمضي معتذرا، فخرجت مهرولا للحاق به بعد أن ارتديت أول جاكت معلقا صادفني.
 
وصلت الشارع، محاولاً إيقاف "تكتك" اختصارا للوقت.. افتش جيوبي فلا أجد قرشا؛ لم تكن هذه ملابس الأمس.. هذا الجاكت لا ألبسه في العادة..!!
 
أتلفت بحسرة خشية أهدار الوقت، ويدي تعبث في جيوب البنطلون، وجدت محل صاحب الألبان على ناصية الشارع كطوق نجاة.. ولم أفكر مرتين ..
 
اللَّبان يعرفني؛ فأنا كل يوم اشتري منه نصف كيلو حليب للأولاد.. تقدمت إليه بدون تردد قائلا: لو سمحت.. هات لي خمسة جنية فكه لما أرجع.. مستعجل ونسيت الفلوس بالبيت..
 
نظر إليّ اللَّبان بامتعاض ونفور قائلا: ما فيش والله فلوس.
 
اصابتني الدهشة برهة، للنظرة المرتسمة على وجهه !!..هل يكون قد ظنني متسولا؟ هل كوني من اليمن له علاقة؟!
 
فقلت مبتسما: أنا جارك هنا، وسأعود خلال دقائق فقط.. الاستعجال فقط جعلني أطلب منك بدل العودة إلى البيت.
 
مط اللبان شفتيه بضجر قائلا: قلت لك والله ما في فلوس.
 
وقفت مبهوتا، مشدوها لتفاهة تصرفي !!؛ انتابتني غصة خانقة من سخافة المشهد؛ هل أبدو متسولا لهذا الرجل؟!
 
تذكرت قبل شهر؛ وأنا أسير في أحد شوارع القاهرة، حين استوقفتني سيدة مصرية في غاية الأناقة والتهذيب، كسيدة أرستقراطية من قاطني تلك الأحياء الراقية..
 
 استوقفتني قائلة- برقة وثقة عجيبة، تشبه ثقتي هذه وأنا أطلب خمسة جنيه من اللبان: لو سمحت يا أبني.. ممكن تجيب لي أجرة التاكسي أرجع البيت.. خمسة جنية فقط ؟!
 
يومها نبشت جيوبي وناولتها كل ما صادفني بحرج بالغ، وأنا اشعر بالخجل من اضطرارها للسؤال.. وكأنما كان ينبغي أن أسأل المارين: هل لديكم ما يكفي كأجرة لتعودوا إلى منازلكم؟!
 
هل ابدو لهذا اللَّبان شحاذا في ثياب مهندمة؟!
 
غامت الدنيا في عينيّ لهول هذا الشعور، وتصاعدت أحشائي إلى حلقي، كدت اتقيأ نفسي ألما لهذا الموقف. أدرت ظهري لنظرات اللَّبان الممتعضة، وأنا أقلب جيوبي كالمُخَدَّر بحركات لا شعورية..!!
 
كيف لم يتذكر وجهي وأنا اشتري منه اللّبن كل ليلة ؟!!
 
هبط ملمس الورقة في الجيب الداخلي للجاكت كدلو ماء مثلج على روحي وبدني ..
 
يا إلهي ..أنه مال !! هذا الجاكت المهمل كنت أدخر في جيبه هذه الورقة الخضراء للزمن الأسود، ونسيت أنها هنا..!!
 
لا أظن أن هناك أشد سوادا من صباحي هذا ..!!
 
انتزعت ورقة المائة دولار، كانتصار لكرامتي وكبريائي، نازعا وقفة العار هذه..
 
استدرت إليه مرة أخرى ووضعت الورقة الخضراء على الطاولة بثقة ونشوة هائلة تجتاح بدني قائلا: ضع هذه ضمان لديك، وهات لي خمسة جنية أركب تكتك عندي مشوار ومستعجل..
 
انقلبت ملامح الرجل، كما تقلب سجادة رثة على وجهها الزاهي.. قال، وهو يفتح الدرج أمامه محرجاً ومدهوشا: لا ما يصحش.. خلي يا باشا، خد الخمسة الجنية والمية دولار !!
 
لكني رفعت كفي بثقة، كأي رجل منتصر بالضربة القاضية قائلاً: أبداً والله.. خليها عندك، راجع آخذ لبن ككل يوم.
 
ارتفع صوته محتجا؛ لكني كنت قد أخذت الخمسة الجنية ومضيت كي أوقف مركبة تكتك؛ رغم أني أشعر بقدرة على الطيران لشدة السعادة أن كرامتي لم تدنس بنظرات الامتعاض تلك ..
 
وأنا أقلب المائة دولار، بعد عودتي إلى البيت، قبّلتها ممتنا..
 
كان درسا قاسيا على النفس: في هذا الزمن الأسود لن ينفعك قلبك الأبيض.. بل ورق البنكنوت الأخضر.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر