لم يسبق أن حكم أمريكا رئيس يثق بوقاحته كما هو حال رئيسها اليوم. نحن إزاء رجل غريب الأطوار؛ صعلوك متبطل بمنزلة رئيس دولة؛ حاكم بذئ ومتخفف من كل الأعراف الدبلوماسية؛ وسياسي رأسمالي مستعد للمتاجرة بكل شيء. إذا كنت ترتجي منه خدمة، ما عليك سوى أن تتحسس خزانتك وتعرض عليه القضية، وسرعان ما سيهزّ الرجل رأسه، ويأخذ قلمه ليمضِ على أي قرار تريده، غير عابئًا بكل الإشكالات التي يمكن أن تثيرها قرارته.
 
وكنموذج على هذه المسخرة، لا بد أن الجميع تابع ما تردد خلال الأيام الماضية عن مساعي الرئيس ترامب لضم جماعة الإخوان لقائمة الجماعات الإرهابية. وبالرغم أن هذا الموضوع ليس جديدًا، فقد سبق أن تقدمت به كثيرًا جماعات يمينية متشددة في الغرب، وفي كل مرة كان يصطدم برفض مؤسسات تلك الدول، بما فيها أمريكا نفسها؛ لعدم توفر مسوغات قانونية كافية لأمر كهذا.
 
إلا أن الطريق هذه المرة معبّدة مع ترامب.. رجل المقاولات الذي لا يتردد عن أي صفقة يشتّم رائحة المال منها. فما إن عرض عليه حلفاء الإقليم هذا الملف بواسطة "السيسي"- على ما يبدو- إلا وضرب الرجل صدره، وذهب يروج للمهزلة، عارضًا مبررات جاهزة، وبطريقة لا تنقصها الوجاهة لمن لا يفقه حيل العالم في التلاعب بموضوع الإرهاب كيفما يشاء.
 
وبالرغم من أن عرض الحلفاء الإقليميين موضوع الإخوان على حليفهم الدولي، يبدو أنه قد تأخر، ربما بسبب انشغالهم بأمور داخلية وخارجية إقليمية، إلا أنهم- وسعيًا منهم لاستغلال ما تبقى من فترة حكم الرجل- قد نجحوا أخيرًا في عقد صفقة جديدة معه، ودفعه للإقدام على قرار كهذا، مع تفضيلهم أن يكون الشخص الذي يعرض الفكرة هو الرئيس الذي يحكم بلد منشأ الجماعة؛ كي يبدو الأمر محايدًا وبدوافع منطقية كاملة.
 
أما ترامب، فمباشرة بدى جاهزًا للتوقيع على طلبات "السيسي"، التي هي بالأساس طلبات حلفاؤه بالإقليم. ولو أنه هذه المرة لم يعلن شروط الدفع علانية؛ لكنه الرئيس الأمريكي الذي بلا شك- وتحت شعاره الرنان "أمريكا أولا"- سوف يحصد من تحت الطاولة مقايضة مريحة بالنسبة له؛ كرجل فُطم على حب المال، وقضى حياته لاهثًا أمام كل نافذة تُدر عليه مزيدًا من النقود.
 

ما الذي تغير..؟
 
إبان حكم الرئيس أوباما، قال وزير خارجيته للجنة من مجلس الشيوخ إن حكومته لا تملك الجسارة الكافية لتصنيف حركة الإخوان كجماعة إرهابية؛ ذلك أن حكومته غير مستعدة لمواجهة ستمائة ألف قضية في المحاكم، فيما لو رفعت في نفس الوقت داخل أراضيه؛ ولا لتعويض كل أولئك البشر حال ربحوا قضيتهم  ضد الحكومة. حيث أن تصنيف "الإخوان" كحركة إرهابية، يتطلب تجميد حساباتها المالية، وتلك مسألة قانونية قد تتسبب في تعطل الحكومة كلها بالنظر إلى عدد/ حجم الذين سيستهدفهم "الاتهام"..
 
بمقارنة هذا الموقف الأمريكي الرسمي، والسابق، من جماعة الإخوان، بموقف الرئيس ترامب اليوم من الجماعة نفسها، ندرك أننا أمام مسخرة دولية مفتوحة. إذ لا يوجد ضابط معياري حاسم في مسألة الإرهاب. وهذا ما يجعل فكرة "الإرهاب" مجرد قفازات مطاطية، يمكن استخدامها كيفما شاء الحاكم، أو حتى المؤسسات؛ فهي في الحالتين فكرة قابلة للتلاعب، كما يشاء المؤول، ووفقا لطلبات الممول، ولتذهب حقوق الإنسان للجحيم.
 

حرب تغذي الإرهاب
 
هناك العديد من النتائج المترتبة على موضوع تصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية. فمن الملاحظ- في سياق الحرب الإقليمية على ما يطلق عليها "حركات الإسلام السياسي"- هو تقديم شعارات وطنية عامة، تقوم
أساسا على الشحن الشعبي في معارك عبثية، تتسبب في تمزيق نسيج المجتمعات، وتكثيف حالة القمع وإقصاء الأخر.
 
والنتيجة هي: تمدد حالة التعبئة المعنوية لحرب الكراهية الأهلية، واستنزاف الشعوب لفترات طويلة، بلا أفق، ولا نتيجة، سوى تأبيد الفوضى وإشعال مزيد من الحرائق في المنطقة.
 
إما النتيجة الثانية، وهي الأخطر: أن تصنيف جماعة سياسية، واسعة الانتشار، في قائمة الجماعات الإرهابية، يفتح مجالًا لتمدد الجماعات المسلحة بصورة غير مسبوقة؛ كون المعركة ضد الحركة السياسية الإسلامية، يغذي نقائضها بطريقة غير مباشرة، والنتيجة مضاعفة دائرة الجماعات المتطرفة وتكثيف شعبية الإرهاب أكثر.
 
ليس لأن استهداف الإخوان يحولهم إلى إرهابيين؛ فهذه الجماعة لديها خبرة طويلة في منع الانجرار للعنف، مهما تحرشت بها الأطراف الداخلية والخارجية؛ إلا أن سيطرة جماعة عريضة على عناصرها بالكامل قد يكون مستحيلا، ولن يمنع انجرار بعضهم، بدوافع ذاتية مستقلة، لمواجهة حالة النقمة الظالمة التي يتعرضون لها، نتاج تحالف الأنظمة المحلية المستبدة مع شريك دولي، بكل ما يملكه هؤلاء من وسائل للبطش والتضييق على أفراد الجماعة في الداخل والخارج.
 
فضلا عن أن هذا التصنيف المغامر لحركة سياسية أمنت بآليات وأدوات العمل الديمقراطي، سيمنح التنظيمات الإرهابية نفسها مبررا آخرا للقبول والتوسع، تحت ذريعة أن التزام العمل السياسي ليس سوى مجرد لعبة دولية وقحة. لاسيما في ظل الخلافات الشديدة بين ما تسمى بـ"حركات الإسلام السياسي"، وبين حركات العنف الإسلامي، بسبب إيمان الأولى بالعمل السياسي كوسيلة للتغيير، ورفض الثانية لذلك، وإيمانها بالعنف كوسيلة وحيدة للتغيير والانتشار.    
 
هكذا يبدع العالم في صنع الإرهاب من العدم. لقد عثروا على شماعة مربحة، ولا أظنهم يتوقفون عن استخدامها، وكلٌ له أهدافه، فبواسطة هذه اللعبة تحرس الأنظمة الإقليمية كراسيها من السقوط، وتكرس القوى الدولية هيمنتها أكثر، وتستدر مزيدًا من المال والنفوذ.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر