"بالة" مسافرة ..


نور ناجي

 كانت "البالة" هي ما وصلني من دندنة السائق الذي قرر تجاهل المسافرين، المتبلدة ابصارهم على ذرات الصحراء المحيطة بهم دون أن يعرفوا ما تكنه؛ هل كانت مرحبة بوجودهم أم عازفة حتى عن متابعة العجلات التي تعبر درب سفرهم؟!
 
جاء اشتقاق لفظ "البالة" من "البال"، أي "الحال أو الشأن". وهي نوع من أنواع الغناء التراثي اليمني الذي يعود لخاطر، يرتجله الشاعر من خياله في السهرات المسائية والمناسبات المتعددة، ليردده وراءه فريق أشبه بالكورال بتنسيق مبدع.
 
 لم تكن البالة حجراً على الرجال في مناطق اليمن المختلفة. بل تسابقت النسوة لارتدائه دون تهيئة مسبقة في مساء الريف الجميل، حين كان متعافياً.
 
من حسن الحظ، أن السائق فَضَل الصمت بعد لحظات، وأناب مسجل العربة عنه لإكمال "بالته" على لسان المطرب "علي عبدالله السمة"، وكلمات الشاعر الرقيق "مطهر الارياني". ارتاحت جميع الأطراف لهذا الخيار واستمتعت بمطلع الأغنية بهدوء:
 
والليلة البال ما للنسمة السارية،،
هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية..
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية،،
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية..
 
تنهدت متألمة، وأنا أتابع اللون الاصفر المسافر بي؛ ترى من أي شاطئ أفريقي وقف خيال الشاعر لتأتيه النفحة الشرقية الكاذية؟ وهل أسقطت تلك النسائم دمعاته، أم أنها ابقتها معلقة حتى يعبر المضيق الضيق ويصل ميناء رجوعه؟!
 
والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد،،
ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد..
قلبي بوادي «بنا» و«أبين» ووادي «زبيد»،،
هايم وروحي أسير الغربة القاسية..
 
مازالت الغربة الوجع الازلي المتجدد في قلب كل يمني وعبر العصور. لا تعلم حقاً إن كان ذلك قدرنا، أم أنه "جين" يسري في دمائنا؟ قد تكون لعنة حلت علينا وعلى أرضنا التي تبادلنا معها الظلم يوماً، نجور عليها بقسوة وهي مستسلمة خانعة في انتظار اللحظة التي تأخذ بثأرها منا، وهي تباعدنا عن اسفارنا بتجنٍ موجع؟
 
أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا،،
وماتوا أهلي ومن حظ النكد عشت أنا..
عشت أزرع الأرض واحصد روحي الذاوية،،
ذكرت أخي كان تاجر أينما جا فرش..
جو عسكر الجن شلوا ما معه من بقش،،
بكر غبش: أين رايح: قال: أرض الحبش..
وسار، واليوم قالوا حالته ناهيه..
 
لقد شكى آباؤنا وقالوا الكثير. وما استعصى عليهم تدوينه، باحوا به بغناء موجوع. إلا أننا وببساطة لم نصغي، وعاتبناهم دون أن نعطي الشاب المنكوب بالطاعون، وفناء الأهل، بعض ما منحنا به أنفسنا من أعذار. بينما اخيه الهارب من "عسكر الجن"، مازال في أرض الحبشة ومطارات العالم منتظرا خلاصه!!
 
بكرت مثله مهاجر والظفر في البكر،،
وكان زادي من اللقمة ريالين حجر..
وابحرت في ساعية تحمل جلود البقر،،
والبن للتاجر المحظوظ والطاغية!!..
 
قد تكون "البالة"، هي الأخرى، غناء متأهب للسفر. تشعر بذلك خلال تنقلاتها بين المقامات وايقاعاتها، المماثلة لتنقل بطل الملحمة المغناة بين "دكة" وداخل "عصب" في أرض الصومال.
 
سدت حلوق المستمعين بغصة حزينة. غصة شعب أنهكه الحزن والتعب منذ مئات السنين، حتى سود الفحم جلودهم "مثلما المدخنة". من المؤلم أن تعلم أنك فرد ضمن جموع توارثت الحزن، ولم تستطع تغيير قدرها، لتبقى خيرات بلدها حكرا مقتسم بين متاجرين وطغاة.
 
لا تعلم حقاً؛ هل جارت الأيام على هذا الشعب أن أننا ضحايا أنفسنا؟ لم أجد شعب يعيد اجترار تاريخه بهذا التطابق المذهل! تبقى الجغرافيا ثابته لملايين السنين، لا خلاف عليها، لكن إعادة المشاهد بذات الأدوار، دون أي تحريف لحبكة أو نهاية، تجعلك تبحث عن السبب الحقيقي لمثل تلك الإعادات الهزلية!
 
لم تعد المساحة الصفراء حيادية، كما كانت قبل لحظات. شعرت بذلك وأنا غارقة بين الحان "البالة" القريبة من نهايتها، حين بدأ بحر الرمال يمتد ليطبق على العربة المسافرة.
 
 لعل شجن المغني قد أصابها، فرفضت استنزاف احزانها أو حمل أوزاره "بدمع يبكي الشجر والحجر"، وأغلقت الطريق بكل عناد أمام هاربين جدد، علها تعيدهم إلى صوابهم، بعد أن قبضت على دمعات غربتهم المبكرة وهي ترجو عودة قريبة:
 
غنيت في غربتي «يا الله لا هنتنا»
ومزق الشوق روحي في لهيب الضنى
راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا
يا جنتي يا ملاذي يا أمي الغالية
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر