المقارنة الظالمة


نور ناجي

 مازالت محاولة إسقاط فترة حكم "ملوك الطوائف" في الأندلس على الشرق الأوسط "الوطن العربي سابقاً"، تجري على قدم وساق، بمقارنة جائرة لا عدالة فيها..
 
يقول الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل: "إن استحضار الماضي مثل استحضار الأرواح؛ غير مقنع في أبسط الأحوال". وهذا ما يفعله منتقدي هذا العصر ومتصيدي أشباح الماضي بلذة فاحشة. لا أدعي أن منطقتنا العربية تتربع قائمة الدول الحضارية المزدهرة، لكن لا بأس إن احتللنا المركز الثاني أو الثالث!!.
 
يدرك دارس التاريخ أن تجزئة الأندلس كانت نتيجة سقوط الدولة الأموية في العام ???هجرية، واستيلاء بقايا وميراث أمراء الاندلس على مناطق نفوذهم، معتمدين على قوة عائلاتهم وولاء جيوشهم الصغيرة، حتى تحولت الدولة القديمة إلى كونتينات شخصية، سخر منهم الشاعر بقوله:
 
مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِي أَرْض أَنْدَلُـسٍ،،
أَسْمَاءُ مُعْتَمِـدٍ فيهـا وَمُعْتَضِـدِ.
أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا،،
كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صُولةَ الأَسَد.
 
لا وجه للتشابه بين تجزئة بلاد الاندلس، وبين ما أبدعه كل من السادة الأفاضل "سايكس ورفيقه بيكو"، في الاتفاقية التي تمت بداية القرن الماضي بحسابات دقيقة، كان للمسطرة فيها السيطرة والسيادة على الخرائط دون محاباة لجغرافية الأرض وإرادة الشعوب.
 
أشهر كل "أمير طائفة" سلاحه على أطراف حدوده؛ إما لصد غزو، أو للهجوم على جيش من الرفقاء القدامى، ليواجه به "الشك"- الوقود الحي لتلك العداوات. وهذا ما لم يحدث في وقتنا الحالي، سوى في حالات نادرة، دفعت الدول- التي أقدمت عليها- ثمن غالي افقدها كيانها، ليتعلم منها بقية حكامنا درس قيم، ملخصه: أن غزو دولة ما بسلاح صريح، خطيئة لا تغتفر.
 
للتخلص من خطر دولة ما، ليس عليك سوى إثارة البلبلة والقلاقل فيها، بأنفاق سخي دون الحاجة لفتح جبهات، لن يكون بوسعك اغلاقها، ولسد ذرائع عقوبات دولية لن تنزلق من بنودها ببساطة.
 
كان أكثر ما يؤخذ على ملوك الطوائف، مهادنتهم للخارج، لدرجة أنهم دفعوا الجزية صاغرين. ولم يكن الأشقر الفونسو (ملك قشتالة) سوى صورة لجابي وقح، لم يراعي الذوق، ولم يتحلى بالقليل من الأدب، وهو يرسل عماله لاستلام أموال جزيته. تجرأ البعض على مقاومته ورفض مشيئته المنهكة للخزائن، ليزاحوا عن عروشهم الورقية، تأديباً على مثل تلك المحاولات.
 
لا يمكننا الجزم باختفاء ملك قشتالة، وتواري خصلات شعره الأشقر في حاضرنا. لكن المؤكد لدى الجميع أن حكامنا لا يقبلون بتاتاً استقبال عامل جباية أو مسؤول ضرائب عابر للقارات على أراضيهم. فقد تطور العصر لتتولى التحويلات البنكية السهلة تلك المهام. كما أن السفر السياحي لقشتالة الجديدة، غذى أماني الحكام، لصداها الإعلامي، ومردودها الذي سيصب حتماً في مصلحة بقائهم على سدة الحكم لفترة أطول مما قدر لهم. كما سيمنح سيدة العالم الجديد الكثير من المليارات لصناعة الأسلحة المفيدة في قمع الشعوب الجشعة للكراسي.
 
ما يثير استغرابك، وأنت تقلب في صفحات ممالك الاندلس، الاثنان والعشرون، ازدهار الثقافة والعلم فيها بشكل غير مسبوق. وكأن امراؤها بحثوا عن شرعية تسند ادعاءاتهم الهزيلة بأحقية الحكم، ليكون العلم والثقافة هو القوة التي نجحت في اسنادهم لفترة ما؛ توسعت تجارة الكتب في جميع الممالك، وافتتحت الجامعات والمكتبات، وكان لتعداد العلماء واحاطتهم بالأمير مقياساً لرشاد حكمه.
 
يجعلنا مثل هذا الأمر، أن ندقق النظر في أوضاعنا الحالية، ونحاول الحكم عليها بإنصاف. هل يحتاج حكامنا فعلاً لأصحاب شهادات عليا، افترشوا الأرصفة لتعزيز ممالكهم وجمهورياتهم؟! منذ متى كان لصاحب الفكر رأي أكثر سدادا من حاشية الحاكم ذو الخبرة؟!
 
كان حكامنا- ومازالوا- أقوى من أي حركة ثقافية وفكرية تدعم اهليتهم واحقيتهم لكراسيهم. وإن كانت الكلمة مهمة لتكون محصورة بإعلام ممول يشيد بمأثورات الزعيم القائد والملك المفدى.
 
"والله لإن أرعى جمال ابن تاشفين، أحب إليَّ من أن أرعى خنازير لاذفونش. ووالله لا أعيد الأندلس ديار كفر، فتقوم عليَّ لعنة المسلمين على المنابر، كما قامت على غيري". كانت تلك عبارة المعتمد بن عباد، أمام رفض ملوك الطوائف الاستعانة بـ"يوسف بن تاشفين"، ضد ألفونسو "ملك قشتالة". لم يكن خوفهم من فراغ، فما أن تمت هزيمة الفونسوا على يد يوسف إبن تاشفين، حتى أدار ظهره بشكل غريب لأوروبا المفتوحة أمامه، واستدار ليبتلع ممالك الاندلس، واحدة تلو الأخرى، مانحاً حكامنا حِكمة لم تهرم ابدا.
 
صالحوا على أساسها كل "قشتالي"، وهادنوه، وحاربوا كل مغامر يرى في نفسه يوسف ابن تاشفين، وقضوا عليه. من الخير أن يبقوا ضعفاء على كراسيهم، على أن تستبدلهم بعديمي خبرة، وتترك جلالتهم على قوارع الطرق!.
 
حتى هذه النقطة، لن يكون استحضار الماضي سوى استدعاء لأشباحه، وهي تذكرنا بسخرية قاتمة؛ بأن واقعنا أشد قتامة مما عاشته قديماً.
 
 فهل سيكون البحث عن مألات ما سيكون أكثر جدوى؟! أم أنه سيأخذنا إلى نقطة، يحاول الجميع الهروب من تفكيرها المحبط؟!
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر