"دمت".. حلم العودة أزهر وأثمر


همدان الحقب

 هناك، في كل من دمت ومريس- شمال شرق الضالع- قبل أربع سنوات، أبت هذه المناطق أن تكون خارج معادلة الحرية والكرامة ومعركتهما الكبرى، أو أن تتوارى عن المشهد لحظة نادى فيه الوطن كل ابنائه ليهبوا في وجه جائحة الانقلاب، وهي تتمدد مثل أفعى تلتهم كل ما حولها، مفرغةً في جسد اليمن المنهك سمها الزعاف.
 
أتذكر تلك اللحظات الفارقة في حياتي، والتي قررت فيها المنطقة، بقيادة بعض الرموز السياسية والاجتماعية وعلى رأسهم الشهيد الخالد نائف الجماعي، أن تقاوم الحوثة وحليفهم صالح، وتتصدى لتمدد "هولاكو" التدمير والقتل، مهما عازتها الإمكانات وساورها الشك في شح إسناد الشرعية، كما صدقت مخاوفها تماما في ما بعد.
 
 في صباح ذلك اليوم، هاجم المقاومون معسكر "الصدرين"، الواقع رأس نقيل "الشيم" المشرف على مدينتي قعطبة والضالع وأسقطوه. ولمِا يتمتع به المعسكر من موقع استراتيجي حساس، فقد سقطت المنطقة بيد المقاومة تلقائيا حتى آخر مناطق دمت المحاذية للرضمة بعد القليل من المعارك الخاطفة التي نشبت في بعض مؤسسات الدولة، حيث كان الحوثيون قد سيطروا عليها في المدينة.
 
استطاعت المقاومة أن تُخرج الحوثيين إلى تخوم الرضمة، لكنها تمترست على مداخل المدينة، بالرغم من قدرتها على التقدم في تلك اللحظة التي كان فيها الانقلابيون يمرون بلحظات إرباك شديد وانهيار معنوي جراء سقوط معسكر الصدرين..
 
على تخوم مدينة دمت وعلى مرمى رصاصة بندقية، تخلقت خطوط تماس، شهدت- بعد يومين من تشكلها- معاركا كانت من أقوى المعارك التي جرت بين المقاومة والانقلابين، بشهادة مقاتلين سبق لهم أن قاتلوا الانقلاب في مناطق أخرى.
 
 استمرت المعارك عشرة أيام بلياليها دون توقف. حشد فيها الحوثيون وحليفهم صالح كل إمكاناتهم، واستماتوا من أجل استعادة دمت، إلى الحد الذي شارك في المعركة- وبشكل مباشر- بعض كبار قيادة المليشيا وعلى رأسهم القيادي الحوثي الكبير "طه المداني"، الذي لقي مصرعه في أحد معارك الأسبوع الأول.
 
وبالرغم من الصمود الأسطوري والاستبسال الذي أبدته المقاومة خلال اسبوعيها الأولين، إلا أنها كانت مرتبكة وغير منظمة. إذ كانت تمثل كل ألوان الطيف المناوئ للحوثي، والذي افتقر لقيادة موحدة تعمل على إدارة الجبهة بشكل منسجم، وتتخذ القرارات المهمة بإجماع، ودون تفرد، كما حدث حين قرر فصيل معين الانسحاب من الجبهة دون علم مكوناتها الأخرى. وبهذا الخيار غير المدروس، وغير المتوافق عليه، تهاوت جبهة دمت الوليدة لتوها، وتراجعت الى مريس التي مكنتها، بفعل الهبّة من الأهالي، استعادة أنفاسها وإيقاف زحف الحوثيين.
 
في مريس، عاودت هذه النواة في التشكل، وسط تجاهل تام من قيادة الشرعية، والتي كانت تبدو لهم جبهة محور (دمت - مريس – جبن)، وكأنها في بلد آخر، لا في واحدة من أهم مناطق اليمن التي يمكن أن تلعب دورا محوريا في اسقاط الانقلاب، فيما لو تم دعمها وحسن استغلال امكانيتها البشرية وموقعها الاستراتيجي..
 
ظل حلم العودة ينمو ويكبر داخل نفوس أبناء دمت والرضمة والقفر، الذين شردهم الحوثي. لم يتوقف مقاومو محور (دمت – مريس - جبن) عند الشكوى والنواح والقاء اللائمة على الشرعية، بالرغم من المعاناة التي كابدوها، والخذلان الذي وصفه أحد قيادات المقاومة بأن "وقعه على النفس أشد من رصاصات المليشيا العابثة". بل اخذوا يلُمّون الجراح ويجمعون ما استطاعوا من قوة، تحطمت عليها أعداد الحوثيين وعتادهم.
 
وخلال هذه الفترة، قدمت المقاومة خيرة شباب المنطقة ورجالاتها شهداء في سبيل الوطن. وفي المقابل كبدت الانقلابيين خسائر فادحة في الأرواح، تقدر بأضعاف مضاعفة عن تلك التي جادت بها. كما أشتد عودها وصقلت مهارات مقاتليها من خلال التجربة المستمرة التي يخوضونها شبه يوميا في جبهات مريس الممتدة على طول حدودها.
 
حلم العودة أزهر وأثمر في صبيحة يوم عظيم، قبل نحو شهر، حينما أطاحت المقاومة بمواقع الحوثة، اللذين عملوا على تحصينها خلال أربع سنوات مضت. أحد مواقعهم الواقعة على سفح جبل "ناصة" الاستراتيجي، كان يبدو إسقاطه- للبعض- مهمة مستحيلة، قبل أن يصبح، وفي ظرف قياسي جدا، تحت سيطرة المقاومة، بعد معركة دامية خسرت فيها المليشيا الحوثية كل مقاتليها الذين كانوا يتحصنون على قمته وينتشرون على سفوحه.
 
أزهر حلم العودة وأثمر في استعادة جزء مهم من مديرية دمت. لكن على هامش هذا الإنجاز الكبير، ثمة مأساة فتكت بالقرى التي توقفت داخلها، مجبرة الأهالي على النزوح المفاجئ، والذي لم يترك لهم فرصة حتى أن يأخذوا ملابسا لأطفالهم؛ الناس نازحون، منهكون، لكنهم يحملون الجراح بصبر الثوار التائقون للخلاص.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر