عدن المحررة


سلمان الحميدي

في 30 نوفمبر 1967، كسفت شمس الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في عدن، سحب آخر جندي بريطاني سارية علم الاحتلال الذي دام أكثر من مائة سنة، ورحل منها..

قبلها كان الشاعر الأبرز آرثر رامبو قد وصل على متن الزورق السكران، بعد حياة منهوكة ومعذبة واستغلال جسيم لاحقه منذ الطفولة، وتعلم في عدن، ما شهدت به شقيقته عند احتضاره وهي تتوسل إليه أن يتمتم بما ينبي أنه مؤمن بالله، فيرد عليها بلكنة عربية: الله كريم.. الله كريم.

بعدها سيقف محمود درويش ويغنيها، ومثله سيفعل الكثير من الشعراء، من سميح القاسم الذي سيكتب "ليلى العدنية" إلى سليمان العيسي وآخرون..

عدن واسعة، مأوى الثائر والشاعر، الصاحب والغريب، العاشق والباحث عن عمل.
الضيق لا يليق بها، وحصرها بلون واحد يقوض تاريخها، وهي التي دونت في ذاكرتها، أشهر فدائي ناضل من أجلها ضد الاحتلال: عبود الشرعبي، كما كانت مأوى للنخبة الذين يجتمعون تمهيدًا للثورة على الإمامة في الشمال.
لم يترك أصحاب السواعد السمراء الناحلة، الاحتلال في راحة، وعندما كانوا يناوشونه لم يكونوا يعرفون معنى "الإمبراطورية" جيدًا، لكنهم يعرفون الشمس كما يعرفون أنفسهم.

في 2013 تقريبًا، ذكر وزير الدفاع الأسبق محمد ناصر أحمد، لمجموعة من الضباط كيف كان الإنجليز يعملون على كسب العوام. أثناء وجبة الغداء يسمح جنود الاحتلال لبعض الأهالي بأكل الأرز معهم، قال ذلك بحسن نية في معرض حديثه لهم عن كيفية توطيد العلاقة بين المواطنين ومؤسسات الأمن والجيش، وكيفية إعادة بناء الثقة، لكنه بعد ذلك هدّ الثقة بالجيش حين جعله بوضعية حياد، وترك للحوثيين حبل البلاد على الغارب، لتجد عدن نفسها والبلاد كاملة في وضعية احتلال ينطبق عليها: "الغزو من الداخل، والمستعمر السري" بتعبير أديب اليمن الكبير عبدالله البردوني..

المحتلون الجدد كانوا سيئين للغاية، ولا يدعون أحدًا للجلوس حول مائدة الأرز المسلوبة، إنهم يكرمونه بالسلب والنهب والقتل.
ومن قبل التئام الشطرين، كان للبلاد المنشطرة اتحاد موحد تحت ظله يمثل الأدباء والكتاب، إذ كان للنخب كلمتهم المسموعة، وكانوا يعرفون أن الأديب يبحث عن فضاء رحيب ووجدانه يفيض بما يكفي للوحدة والإندماج الإنساني، كانوا نفريون بتأملاتهم حيث وحسب مبدأ النفري: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.

من المثير للضحك والغرابة في آن، أنه بعد أكثر من خمسين سنة على الجلاء، تظهر من هذه البوابة "الأدباء والكتاب اليمنيين"، أضيق فكرة تثير رامبو في قبره، وفي نوفمبر أيضًا، حيث يظهر أدباء لم يسبق أن وجدناهم، يظهرون تحت يافطة تنادي: باتحاد لأدباء وكتاب جنوبي، لتضيق الرؤية بين علمين منفصلين وتدخل العبارة مرحلة الغرغرة.

من قبل الاحتلال كانوا يهجلون: إيييه من ضاق حاله أتوجه له عدن
وغنى الفنان الكبير أيوب طارش: عدن عدن.. فيها الهوى ملون
وللتعبير عن رحابتها الذي يسع كل طيف، يهدد العاشق: والله العظيم لوما تزوجوني، لاهرب عدن.. إلخ.

هذا ليس فلكلورًا، هذا انطباع متوارث عن المدينة الباسمة، التي يحاولون تشويهها بفرض حزام أمني يرد القادم الملتاع لعدن الآسرة، بزراعة القلاقل والاغتيالات، بتحويلها إلى ساحة منادية بالتفرقة نكاية بأحزاب، ورجال ممولون يستغلون المناسبات التاريخية للقيام بنشاط شطري مربح..

عدن عصية على محاولات إفراغها من تاريخها.
وكما أنه يأتي "نوفمبر" اليوم وقد تحررت من المحتل الداخلي، سيأتي اليوم الذي يتحرر فيه المسكونين بالتمزق من أفكارهم هذه، خاصة إذا ما آمنوا أن التحالف العربي مع وحدة الشمل، ليأمر الغرباء على نضال القضية الجنوبية أن أنزلوا سارية أفكاركم ودعوها ترحل ليس إلى الأبد، لأنهم قد يحتاجونها بالنكايات مستقبلًا!.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر