الكاتب البوق


منذر فؤاد

 الكتابة ليست حكرا على أحد، ولا يشترط في من يمارسها أن يكون حاصلا على شهادات ومؤهلات وأوسمة، فهذه كلها تسقط جميعا عندما يتحول الكاتب إلى بوق، يكتب ما يملى عليه فقط، ولأهداف غير واقعية! 
 
عندما اخترع الإنسان الكتابة، كان يبدو مزهوا وهو يعبر عن مشاعره وأفكاره في كلمات متراصة. كانت الكتابة في تلك اللحظة حاجة إنسانية للاتصال والتعبير ونقل المعلومات وتداولها بين الأجيال المتعاقبة، وعندما وصلت الكتابة إلى بلاط الأمراء والسلاطين، أصبحت بوقا للسلطة ترسل من خلالها ما تريده إلى الشعب، في أحيان كثيرة.
 
والكاتب، مهما امتلك لسانه قدرة فائقة على التعبير، وتنميق الكلمات في جمل متناسقة تفيض بالعذوبة والحلاوة، فإن عليه امتلاك ما هو أهم من ذلك، وهي حريته في التعبير عن قناعاته الخاصة تجاه الأحداث والمتغيرات، واستقلاليته عن كل تبعية تهدف لتسويق قلمه لخدمة أهدافها، وإلا فما قيمة الحرف عندما يرسف بالأغلال!
 
ظاهرة الكاتب البوق، تستحق الوقوف عليها ودراستها، والوقوف على أسبابها وارتباطاتها وتأثيراتها المختلفة، خاصة مع بروزها في مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولها إلى كتلة ضبابية تعمد إلى التضليل وحجب الحقيقة.
 
الكاتب البوق، لم يعد مقتصرا على عالم الصحافة والإعلام، وأصبح بإمكان أي إنسان يجيد اللغة والكتابة أن يكون بوقا لأي جهة بمقابل أو بدون مقابل، وتلعب العصبية الحزبية والوطنية والمناطقية دورا في تنامي هذه الظاهرة.
 
في اليمن، نجد هذه الظاهرة في تزايد ملحوظ؛ ناشطون وصحف وصفحات ومواقع إلكترونية أضحت أبواقا لتلميع شخصيات معينة، أو أحزاب سياسية أو منظمات إنسانية واجتماعية، وبقدر ماتلمع فإنها تنسف، وفقا لكيفية الاستخدام وعلى حسب الطلب.
 
تشكّل مدينة تعز مثالا عمليا على تنامي هذه الظاهرة، إذ يوجد فيها عدد كبير من الأبواق التابعة لأحزاب وجهات سياسية، وهذه الأبواق رغم اختلافها تبعا للجهة التي تعمل فيها، إلا أنها تلتقي عند نقطة مشتركة؛ تشويه المدينة وتقزيمها سياسيا وعسكريا، والعبث بأدوار أبنائها النضالية في مواجهة الانقلاب.
 
ثمة خطورة أيضا تشكلها هذه الظاهرة، في تغلغلها في الوسط الصحفي، إذ إنها تشكل تهديدا لقواعد الممارسة الصحفية، خاصة مع اتساع رقعة العمل الإعلامي ليشمل النطيحة والمتردية، وإعلاء الجانب النفعي والانتماء التنظيمي على المعايير المهنية في المواقع والمؤسسات الصحفية، ومايترتب على ذلك من فرض ما يشبه الوصاية على الصحفيين والكتاب، وتوسيع دائرة الممنوعات التي يجب عليهم تجنبها، أو توجيههم على نحو يدفع الصحفي أو الكاتب لأن يصبح بوقا تحت التنفيذ!
 
إنها ظاهرة دخيلة على الكتابة الإبداعية، التي تتسم بالمهنية والإنصاف والنقد الموضوعي، كونها"أي الظاهرة" تعتمد على ما يدفع من المال، وتعتمد أيضا على التشويه وحرف الحقيقة والإساءة للآخرين استنادا إلى معلومات غير دقيقة.
 
ربما تساق بعض المبررات لتفسير تنامي هذه الظاهرة في منصات التواصل الاجتماعي، كونها فضاء مفتوح للجميع للتعبير عن آرائهم، لكن لا يمكن تبرير تنامي هذه الظاهرة في أوساط الكتاب والصحفيين والمواقع الصحفية، لأن ذلك يتنافى مع الأصول الضابطة للمهنة.
 
من الصعب القضاء على هذه الظاهرة في بيئة مليئة بالاستقطاب، وتقييد الأقلام الحرة ومحاربتها، وهذا ما يفرض على النخب والكتاب والمؤسسات الصحفية العمل بشكل مضاعف لتعزيز قيم الأمانة والإنصاف والمسؤولية، وغيرها من القيم التي تشكل أرضية صلبة يمكنها التصدي لظاهرة"الكاتب البوق".
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر