عندما نتحدث عن نمط الحياة الذي نعيشه في العالم الافتراضي، فهذا النمط بصورته الحالية، يسرق منا أعمارنا وأوقاتنا، ويجبرنا على العيش بعيدا عن ذواتنا الطبيعية، في إطار صورة محددة المعالم، لا نملك التحكم في تفاصيلها، كما أنه يجعلنا ندور في فلك العولمة بكل أشكالها على حساب إنسانيتنا وذواتنا دون أن نشعر بذلك!
 
إن نمط الحياة الذي أفرزته الثورة التقنية، ساهم في منح الإنسان حياة افتراضية، يتبادل خلالها الحديث والمشاعر مع من يعرفهم ومن لا يعرفهم، وفي زحمة هذه الحياة الافتراضية يتحول الإنسان إلى مجرد آلة تدر الربح على الشركات والمؤسسات التقنية، وإن كان ثمة خاسر فلن يكون سوى هذا الإنسان.
 
الحياة الافتراضية، التي تعتمد على وسيط هو الحاسوب أو الهاتف وتمنح دخولها لمن يملكون المال ولو كانت رسوما رمزية، هي عملية تجارية بحتة، ومجرد تمضية للوقت لا أكثر، إن لم تعد بالنفع على الداخلين إليها، أو تمنحهم معلومة جديدة، أو يتركون فيها بصمة إيجابية.
 
في الحسابات المادية، قد تبدو الأموال التي ينفقها المرء لقاء دخوله عالم الإنترنت زهيدة الثمن، لكن في الحسابات الإنسانية والاجتماعية تكون التكلفة باهظة الثمن، فالأسرة الواحدة تصبح عرضة للتفكك وعدم الانسجام كلما قل الوقت الذي يجتمعون فيه لتبادل الحديث والهموم المشتركة أو إنجاز عمل ما، في مقابل زيادة مبالغة في الجلوس أمام شاشة الحاسوب أو الهاتف، وفتور الروابط الإنسانية داخل الأسرة الواحدة لاشك أنه سيمتد ليشمل دائرة أوسع تتمثل في المجتمع.
 
ومهما حاول العالم الافتراضي، محاكاة الحياة الواقعية، إلا أنه يبقى قاصرا، ويفتقر إلى تفاعلاتها الحية في الأحداث والعلاقات، كما أنه عرضة للتضليل والتشويه وإظهار الواقع على النقيض تماما، خدمة لأجندات معينة.ر
 
وإذا كان البعض يلجأ إلى العالم الافتراضي هربا من ضجيج الحياة ومشاكلها، فإنه لن يجد في العالم الافتراضي جنة وارفة تنسيه هموم الحياة ومشاكلها، بقدر ما تمنحه شعورا كاذبا بذلك، وسيضطر في نهاية المطاف إلى تقبل الحياة على حقيقتها، والبحث عن حلول واقعية وعقلانية لهمومها ومشاكلها.
 
إن في التقوقع داخل العالم الافتراضي لغرض التسلية، تعطيل لطاقة الإنسان، وإهدار للوقت، وإدمان لا فائدة منه، وتضييع للمعنى الحقيقي للحياة الواقعية التي يجب أن يعيشها المرء مع محيطه الأسري وبيئته الإجتماعية.
 
الحياة الافتراضية التي يوفرها عالم الإنترنت، أشبه بالمنظار الذي يستخدمه الإنسان لتكبير الأشياء البعيدة، مع فارق أن المنظار يعطي صورة حقيقية مقربة، بينما عالم الإنترنت يقدم أكثر من رواية للصورة أو الحدث، وهذا ما نلحظه كثيرا في وجود أكثر من رواية للأحداث والوقائع المهمة، ومحاولة التأثير في عقلية الفرد ولو باستخدام وسائل خداع معينة.
 
قد يبدو الخلاص من العالم الافتراضي أمرا مستحيلا كونه أصبح مرتبطا بالفرد بدرجة رئيسية، وينجز من خلاله أعماله ويبني قاعدة علاقاته الإنسانية والتجارية وغير ذلك، لكن ثمة أوقات ثمينة نهدرها دون أي إنجاز، وهذا يتطلب منا أن نبذل قصارى جهدنا للحفاظ عليها، وأن نبحث عن طرق بديلة نستثمر من خلالها هذا الوقت، ومنها الهروب إلى ذواتنا الطبيعية التي خلقنا الله عليها، والبحث عما يشبع حاجتها من الأعمال الإنسانية والعلاقات الاجتماعية.
 
اقرأ كتابا، تأمل ذاتك وتأمل الكون الواسع من أي زاوية شئت، ساعد أسرتك في الأعمال المنزلية، مد يد العون للآخرين ولا تتردد في التخفيف عن آلامهم ومتاعبهم الجسدية والنفسية، حاسب نفسك دائما وأصلح مكامن الخلل، إقض وقتا مع الأطفال وأطلق الطفل الصغير الذي تحتويه في شخصيتك بدون خجل، زر مريضا، تلمس محتاجا، أطلق العنان لخيالك لرواية قصة مثيرة، وغير ذلك الكثير مما يجعلك أكثر قربا من حياتك الطبيعية، ويمنحك فرصة لإعادة تقييم علاقتك بالعالم الافتراضي وتنظيم هذه العلاقة ضمن إطار معقول وهادف

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر